الآيات 48 - 53
﴿وَكَـانَ فِى الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْط يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَـا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وِإنَّا لَصَـدِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـهُمْ وَقَومَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَةً لِّقَوم يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) ﴾
التفسير
تآمر تسعة رهط في وادي القُرى:
نقرأ هنا قسماً آخر من قصّة "صالح" وقومه، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل "صالح" من قِبل تسعة "رهط"(1) من المنافقين والكفار، وفشل هذا التآمر! في وادي القرى منطقة "النّبي صالح وقومه".
يقول القرآن في هذا الشأن (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون).
ومع ملاحظة أنّ "الرّهط" يعني في اللغة الجماعة التي تقلُّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين، فإنّه يتّضح أن كلاّ من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص، وقد اجتمعوا على أمر واحد، وهو الإفساد في الأرض والاخلال بالمجتمع (ونظامه الإجتماعي) ومبادىء العقيدة والأخلاق فيه.
وجملة "لا يصلحون" تأكيد على هذا الأمر، لأنّ الإنسان قد يفسدُ في بعض الحالات ثمّ يندم ويتوجه نحو الإصلاح.. إنّ المفسدين الواقعيين ليسوا كذلك، فهم يواصلون الفساد والإفساد ولا يفكرون بالإصلاح!.
وخاصّة أن الفعل في الجملة "يفسدون" فعل مضارع، وهو يدل على الإستمرار، فمعناه أن إفسادهم كان مستمراً... وكلّ رهط من هؤلاء التسعة كان له زعيم وقائد... ويحتمل أن كلاًّ ينتسب إلى قبيلة!.
ولا ريب أن ظهور "صالح" بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ثمّ لنقولنّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون).
"تقاسموا" فعل أمر، أيّ اشتركوا جميعاً في اليمين، وتعهّدوا على هذه المؤامرة الكبرى تعهداً لا عودة فيه ولا انعطاف!.
الطريف أنّ أُولئك كانوا يقسمون بالله، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون بالله، مع أنّهم يعبدون الأصنام، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمّة.. كما يدل هذا الأمر على أنّهم كانوا في منتهى الغرور و"السكر" بحيث يقومون بهذه الجناية الكبرى على اسم الله وذكره!! فكأنّهم يريدون أن يقوموا بعبادة أو خدمة مقبولة... إلاّ أنّ هذا نهج الغافلين المغرورين الذين لا يعرفون الله والضالين عن الحق.
وكلمة "لنبيتنّه" مأخوذة من ـ"التبييت"، ومعناه الهجوم ليلا، وهذا التعبير يدلّ على أنّهم كانوا يخافون من جماعة صالح وأتباعه، ويستوحشون من قومه.. لذلك ومن أجل أن يحققوا هدفهم ولا يكونوا في الوقت ذاته مثار غضب أتباع صالح، اضطروا إلى أن يبيتوا الأمر، واتفقوا أن لو سألوهم عن مهلك النّبي - لأنّهم كانوا معروفين بمخالفته من قبل - حلفوا بأن لا علاقة لهم بذلك الأمر، ولم يشهدوا الحادثة أبداً.
جاء في التواريخ أن المؤامرة كانت بهذه الصورة، وهي أن جبلا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح، وكان يأتيه ليلا بعض الأحيان يعبد الله فيه ويتضرع إليه، فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثمّ يعودوا إلى بيوتهم، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.
فلمّا كمنوا في زاوية واختبأوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال!
لذلك يقول القرآن في الآية التالية: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون).
ثمّ يضيف قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرنا هم وقومهم أجمعين).
وكلمة (مكر) - كما بينّاها سابقاً - تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الإهتداء إلى أمر ما.. ولا تختص بالاُمور التي تجلب الضرر، بل تستعمل بما يضر وما ينفع.. فيصح وصف المكر بالخير إذا كان لما ينفع، ووصفه بالسوء إذا كان لما يضرّ.. قال سبحانه: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).
وقال: (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله)! "فتأملوا بدقّة"يقول الراغب في المفردات.. المكر صرف الغير عما يقصده.. فبناءً على هذا إذا نسبت هذه الكلمة إلى الله فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبلالآخرين، وإذا نسبت إلى المفسدين فهي تعني الوقوف بوجه المناهج الإصلاحية، والحيلولة دونها.
ثمّ يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول: (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا).
فلا صوتَ يُسمع منها ولا حركة تتردد ولا أثر من تلك الزخارف والزبارج والنعم والمجالس الموبوءة بالذنوب والخطايا.
أجل، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعاً (إن في ذلك لآية لقوم يعلمون).
إلاّ أن الأخضر لم يحترق باليابس، والأبرياء لم يؤخدوا بجرم الأشقياء... بل سلم المتقون (وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون).
ملاحظات
1 - عقوبة ثمودتختلف تعابير آيات القرآن في موضوع هلاك قوم صالح "ثمود".
فتارةً يأتي التعبير عن هلاكهم بالزلزلة (فأخذتهم الرجفة).(2)
وتارة يقول: "عنهم" القرآن: (فأخدتهم الصاعقة)(3).
وتارة يقول: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)(4).
إلاّ أنّه لا منافاة بين هذه التعابير الثلاثة أبداً... لأنّ "الصاعقة" هي الشعلة الكبيرة بين السحاب والأرض المقرونة بصيحة عظيمة واهتزاز شديد في الأرض "ذكرنا تفصيلا عن الصيحة السماوية في ذيل الآية 67".
2 - روى بعض المفسّرين أن أصحاب صالح الذين نجوا معه كانوا أربعة آلاف رجل، وقد خرجوا بأمر الله من المنطقة الموبوءة بالفساد إلى حضر موت"(5).
3 - "خاوية" من (الخواء) على وزن (الهواء) معناه السقوط والهوىّ والإنهدام، وقد يأتي الخواء بمعنى الخلو... وهذا التعبير ورد في سقوط النجم وهويه، إذا قالوا "خوى النجم" أي هوى.
ويرى الراغب في المفردات أن الاصل في "خوى" هو الخلو... ويُرِد هذا التعبير في البطون الغرثى، والجوز الخالي، والنجوم التي لا تعقب الغيث، كان عرب الجاهلية يعتقدون أن كل نجم يظهر في الأفق يصحبه الغيث! "المطر".
4 - روي عن ابن عباس أنّه قال: استفدت من القرآن أن الظلم يخرب البيوت ويهدمها، ثمّ استدل بالآية الكريمة (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا)(6).
وفي الحقيقة فإن تأثير الظلم في تخريب البيوت والمدن والمجتمعات لا يقاس بأي شيء، فالظلم يأتي بالصاعقة المهلكة، والظلم يزلزل ويدمر... والظلم له أثر كأثر الصيحة - في السماء - المهلكة المميتة، وقد أكد التأريخ مراراً هذه الحقيقة وأثبتها، وهي أن الدنيا قد تدوم مع الكفر، إلاّ أنّها لا تدوم مع الظلم أبداً.
5 - ما لا شك فيه أن عقاب ثمود "قوم صالح" كان بعد أن عقروا الناقة "قتلوها" وكما يقول القرآن في الآيات (65) - (67) من سورة هود: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، فلمّا جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربّك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين).
فبناءً على هذه الآيات لم ينزل العذاب مباشرة بعد المؤامرة على قتل صالح، بل الإحتمال القوي أن الجماعة الذين تآمروا على قتله أهلكوا فحسب، ثمّ أمهل اللّه الباقين، فلمّا قتلوا الناقة أهلك الله جميع الظالمين والآثمين الكافرين.
وهذه هي نتيجة الجمع بين آيات هذه السورة، والآيات الواردة في هذا الشأن في سورتي الأعراف وهود.
وبتعبير آخر: في الآيات محل البحث جاء بيان إهلاكهم بعد مؤامرتهم على قتل نبيهم صالح، أمّا في سورتي الأعراف وهود فبيان هلاكهم بعد عقرهم الناقة.
ونتيجة الأمرين أنّهم حاولوا قتل نبيّهم، فلمّا لم يفلحوا أقدموا على قتل الناقة (وعقرها) التي كانت معجزته الكبرى... ونزل عليهم العذاب بعد أن أمهلوا ثلاثة أيام.
ويحتمل أيضاً أنّهم أقدموا على قتل الناقة أولا، فلما هدّدهم نبيّهم صالح بنزول العذاب بعد ثلاثة أيّام حاولوا قتله، فأهلكوا دون أن يفلحوا في قتله(7).
1- الأنفال، الآية 32.
2- الأعراف، 131.
3- يشير الكميت الأسدي إلى بعض هذه الخرافات في قصيدته البائية فيقول:
ولا أنا ممن يزجر الطير هَمّهُ أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشيةً أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضبُ (المصحح).
4- المفازاة تأتي بمعنى الفوز، وتأتى بمعنى الهلاك... فهي من الأضداد في اللغة - وهنا معناها الصحراء المهلكة (المصحح).
5- "الرهط" من الناس ما لا يقل عن الثلاثة ولا يزيد عن العشرة، وهو اسم جنس لا مفرد له من نوعه ويجمع على أراهط وأرهاط - ولا يكون في الرهط امرأة (المصحح).
6- الأعراف، الآية 78.
7- الذاريات، 44.