الآيات 167 - 175
﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الُْمخْرَجِينَ(167) قَالَ إِنِّى لَعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ(168) رَبِّ نَجِنِّى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170) إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغَـبِرِينَ(171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ(172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهُم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173) إِنَّ فِى ذَلكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)﴾
التّفسير
عاقبة قوم لوط:
إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة، بدلا من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة، فإنهم نهضوا لمواجهتهِ و (قالوا لئن لم تنتهِ يا لوط لتكونن من المخرجين)...
إن كلامك يُبلبل أفكارنا، ويسلب اطمئناننا وهدوءنا، فنحن غير مستعدين حتى للإصغاء إلى كلامك... وإذا واصلت هذا الاُسلوب ولم تنته منه، فإنّ أقل ما تجزى به هو الإبعاد والإخراج من هذه الأرض...
ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم، وأمروا بإخراج لوط وأهله، فقالوا: (أخرجوهم من قريتكم إنّهم اُناس يتطهّرون).
إن فعل هؤلاء الضالّين - بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة، وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع المسرع نحو الفساد!
ويستفاد من عبارة (لتكونن من المخرجين) أنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا اُناساً طاهرين من حيّهم فهدّدوا لوطاً بهذا الأمر أيضاً، وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من الإبعاد والإخراج...
وقد صُرّح في بعض التفاسير أنّهم كانوا يُخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال(1)...
إلاّ أنّ لوطاً لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم و (قال إنّي لعملكم من القالين).
إنّه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إيّاكم... فافعلوا ما شئتم... فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالإعتراض والنقد!...
والتعبير بـ "من القالين" يدلُّ أيضاً على أن جماعة كانوا مثل النّبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون عليها... رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر الأمر.
كلمة "القالِين" جمع "قال" من مادة (قَلَى) أو (قَلِيَ) "على وزنيْ حَلَقَ وشَرِكَ" ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب الإنسان، وهذا التعبير يكشف عن شدّة تنفّر لوط من أعمالهم...
والذي يسترعي النظر أن لوطاً يقول: إنّي لعملكم من القالين. أي إنّني لا أعاديكم بأشخاصكم، بل أعادي أعمالكم المخزية، فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا محبّ لكم وغير قال لكم.
وأخيراً لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه، فبدّل الفساد مجتمعهم كلّه إلى مستنقع عفن... وتمّت الحجة عليهم بمقدار كاف، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية... فعليه أن يغادر هذه المنطقة العفنة، وأن ينجّي من معه ممن استجاب دعوته، لينزل عذاب الله على القوم الفاسقين فيهلكهم، فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه، فقال: (رب نجني وأهلي ممّا كانوا يعملون).
وبالرغم من أنّ بعضهم احتمل أن يكون المراد من الأهل من الآية جميع من آمن به... إلاّ أن الآية (36) من سورة الذاريات تقول: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين).
ولكن كما أشرنا من قبل - فإن بعض التعابير الواردة في الآيات محل البحث، تشير إلى أن جماعة من المؤمنين به كانوا قد أُبعدوا وأُخرجوا من القرية...
ويستفاد ممّا قيل - ضمناً - أن دعاء لوط لأهله لم يكن بسبب العلاقة العاطفية والإرتباط النسبي القرابتي، بل لإيمانهم به...
فاستجاب الله دعاؤه كما تقول الآية التالية: (فنجّيناه وأهله أجمعين إلاّ عجوزاً في الغابرين).(2)
وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النّبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين وعقيدتهم، ولم تؤمن بلوط أبداً، ولذلك ابتليت بما أُبتلي به قومه من العذاب والهلاك.
وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآيات "81 - 83 من سورة هود".
أجَلْ، لقد نجّى الله لوطاً والمؤمنين القلّة معه، فأمر أن يخرج بهم ليلا من تلك المدينة - أو القرية - فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم، فنزل عذاب الله في الغداة، فتزلزلت بهم الأرض وانهارت عليهم الأبنية والقصور الجميلة حتى اصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعاً في ديارهم، وقد عبّر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة، فقال: (ثمّ دمرنا الآخرين) ولم يكف ذلك بل (وأمطرنا عليهم مطراً) وأيّ مطر! إنّه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها من الانظار. (فساء مطر المنذرين)!...
والأمطار عادة تمنح الحياة، إلاّ أن هذا المطر كان موحشاً مهلكاً مخرّباً...
ويستفاد من الآية (82) من سورة هود أن قرى قوم لوط ومدنهم قُلب عاليها سافلها أوّلا، ثمّ أمطرت بالحجر النضيد المتراكم، ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم، فلم يبق منها غير تل كبير من الأحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة...
تُرى هل كانت هذه الأحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على رؤوسهم؟ أو هي أحجار نزلت من السماء بأمر من الله عليهم؟!
أو كما يقول بعض المفسّرين كان هناك بركان أو جبل نار قد خمد لفترة، ثمّ انفجر بأمر الله فأمطرهم بالحجارة، ليس ذلك معلوماً على نحو الدقّة! إلاّ أن من المسلّم به أنّ هذه الأحجار - أو هذا المطر المهلك - لم يترك للحياة في تلك الأرض من أثر!
"وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل الآيات 81 - 83 من سورة هود، كما ذكرناه في الجزء الثامن مع "لطائف" مختلفة فلا بأس بمراجعتها"...
ومرّة أُخرى نواجه في نهاية هذه القصّة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه السورة، في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين، إذ يقول القرآن: (إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين).
وأيّة آية أجلى من هذه الآية التي تعرفكم على هذه المسائل المهمّة والبناءة، دون أن تحتاجوا إلى تجربة شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية للآتين، وليس تجربة، لأنّ التجربة ينبغي على الإِنسان أن يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها... إلاّ أننّا هنا نحصل على النتائج من خسائر الآخرين!.
(وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
وأية رحمة أعظم من أنّه لا يعاقب أقواماً فاسقين كقوم لوط فوراً، بل يمهلهم إمهالا كافياً لعلهم يهتدون، ويجددوا نظرهم في أعمالهم!...
وأية رحمة أعظم من أن لا يخلط عقابه "الأخضر باليابس" بل لو كان في ألفِ ألفِ(3) أُسرة غير صالحة أسرة واحدة صالحة، فإنه ينجيها منها وينزل العذاب على اُولئك!
وأية عزّة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد دُمرت تدميراً ولم يبق منها أي أثر!
فالأرض التي كانت مهاداً لأمنهم أمرت بإقبارهم، والمطر الذي تحيا به الأرض والناس يكون مميتاً لهم!
1- بحار الانوار، ج 79، ص 72.
2- تفسير روح المعاني، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، ذيل الآيات محل البحث.
3- "الغابر" من مادة (الغبور) ومعناه الباقي، ومتى ما تحركتْ جماعة وبقي شخص في المكان فإنّه يدعى (غابراً) ولهذا السبب سمي التراب الباقي غباراً... والغبرة: الباقي من اللبن في ثدي الحيوان.