الآيات 123 - 135

﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123) إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ (124) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126) وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ(127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع ءَايَةً تَعْبَثُونَ(128) وَتَتَّخُذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُم تَخْـلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُم جَبَّارِينَ(130) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُم بمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَـم وَبَنِينَ (133) وَجَنَّـت وَعُيُون(134) إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم(135)﴾

التّفسير

جنايات عاد واعمالهم العدوانية:

والآن يأتي الكلام عن "عاد" قوم "هود" إذ يعرض القرآن جانباً من حياتهم وعاقبتهم، وما فيها من دروس العبر، ضمن ثماني عشرة آيةً من آياته!...

"عادُ" - كما قلنا من قبل - جماعة كانوا يقطنون في "الأحقاف"، وهي منطقة في حضرموت تابعة لليمن، تقع جنوب الجزيرة العربية...

فيقول القرآن: (كذّبت عادٌ المرسلين).(1)

بالرغم من أنّهم كذبوا هوداً فحسب، إلاّ أنّه لمّا كانت دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعاً، فكأنّهم كذبوا الأنبياء جميعاً...

وبعد ذكر هذا الإجمال يقع التفصيل، فيتحدّث القرآن عنهم فيقول: (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون).

لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم، لذلك عبّر عنه القرآن بكلمة "أخوهم"...

ثمّ أضاف قائلا: (إنّي لكم رسول أمين) وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة، فإنّي لم أخنكم أبداً... ولم تجدوا منّي غير الصدق والحق!...

ثمّ يضيف مؤكّداً: لما كنتم تعرفونني جيداً (فاتقوا الله وأطيعون)... لأنّ إطاعتكم إيّاي إطاعة لله سبحانه... ولا تتصوروا بأنّي أدعوكم لأنتفع من وراء دعوتي إيّاكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه، فلست كذلك (وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إلاّ على ربّ العالمين)... فجميع النِعَم والبركات من قِبَلهِ سبحانه، وإذا أردتُ شيئاً طلبته منه، فهو ربّ العالمين جميعاً...

والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة "هود" في قومه إلى أربعة أُمور على الترتيب...

فالأمر الأوّل: هو محتوى دعوة "هود" الذي يدور حول توحيد الله وتقواه، وقرأنا ذلك بجلاء في ما مضى من الآي...

أمّا الأُمور الثلاثة الأخر فيذكرها القرآن حاكياً عن لسان هود في ثوب الإستفهام الإنكاري، فيقول: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون).

"الريع" في الأصل يُطلقُ على المكان المرتفع، أمّا كلمة (تعبثون) فمأخوذ من "العبث"، ومعناه العمل بلا هدف صحيح، ومع ملاحظة كلمة (آية) التي تدل على العلامة يتّضح معنى العبارة بجلاء... وهو أنّ هؤلاء القوم المثرين، كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات الأُخر مبانيَ عالية للظهور والتفاخر على الآخرين، وهذه المباني كالأبراج وما شاكلها لم يكن من روائها أي هدف سوى لفت أنظار الآخرين، وإظهار قدرتهم وقوّتهم - من خلالها - !!

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت تُبنى على المرتفعات، وكانت مركزاً للهو واللعب، كما هو جار في عصرنا بين الطغاة... فيبدو بعيداً، لأن هذا التعبير لا ينسجم مع كلمتي (الآية) و(العبث).

كما أنّ هناك احتمال ثالث ذكره بعض المفسّرين، وهو أنّ عاداً كانت تبني هذه البنايات للاشراف على الشوارع العامّة، ليستهزئوا منها بالمارة، إلاّ أن التّفسير الأوّل يبدو أكثر صحة من سواه...

وأمّا الأمر الثّالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه، فهو قوله: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون).

"المصانع" جمع "مصنع" ومعناه المكان أو البناء المجلّل المحكم، والنّبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائِمة، بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة!... فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر، بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم...

أجل، إنّ مثل هذه المباني التي تُذهل أهلها، وتجعلهم غافلين عن اليوم الآخر، هي لا شك مذمومة!

و في بعض الرّوايات عن أنس بن مالك أنّ رسول الله(ص) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب به وبالاعراض عنه، فشكى ذلك إلى أصحابه وقال: والله إليّ لأنكر رسول الله(ص) ما أدرى ما حدث فيّ وما صنعت؟

قالوا: خرج رسول الله فرأى قبّتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه، فرجع الى قبّته فسواها بالأرض، فخرج رسول الله(ص) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا: شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه فهدمها فقال(ص): "إن كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلاّ ما لابُدّ منه".(2)

ويعرف من هذه الرّواية وما شابهها من الرّوايات نظر الإسلام بجلاء، فكل بناء "طاغوتي" مشيد بالإسراف والبذخ ومستوجب للغفلة... يمقته الإسلام، ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه الأبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله، ولا سيما في محيط يسكن فيه المحرومون والمستضعفون...

إلاّ أن ما ينبغي التنويه به، أنّ النّبي(ص) لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف الإِنساني أبداً، ولم يأمر بتخريب البناء، بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كالإِعراض وعدم الإِهتمام بالبناء مثلا!...

ثمّ ينتقد النّبي "هود" قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين).

فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملا يستوجب العقوبة، إلاّ أنّه لا يصح تجاوز الحد والإِنحراف عن جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته، وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم الكبير... وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف(3) ، فذلك ما كان يلجأ إليه الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ...

ويرى الراغب في المفردات أن "البطش" على زنة (نقش) هو أخذ الشيء بقوّة وقسّوة واستعلاء...

وفي الحقيقة أن هوداً يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلاثة:

الأوّل: علاماتهم التي كانت مظهراً لحبّ الإستعلاء وحب الذات، والتي كانت تبنى على المرتفعات العالية ليفخروا بها على سواهم.

ثمّ يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله، وإن الدنيا دار ممر لا مقر.

وأخيراً فإنّه ينتقدهم في تجاوزهم الحدّ والبطش عند الإنتقام...

والقدر الجامع بين هذه الأُمور الثلاثة هو الإِحساس بالإِستعلاء وحبّ البقاء. ويدلّ هذا الأمر على أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر الله حتى ادعوا الألوهية... فهم باعمالهم هذه يؤكّدون هذه الحقيقة، وهي أن "حب الدنيا رأس كل خطيئة".(4)

والقسم الثّالث من حديث هود ممّا بيّنه لقومه، هو ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم - عن هذا الطريق - الإِحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو الله...

وفي هذا الصدد يتبع النّبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث، فيلتفت نحوهم أولا فيقول: (واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون).(5)

وبعد هذا التعبير المُجل يذكر تفصيل نعم الله عليهم، فيقول: (أمدكم بأنعام وبنين)...

فمن جهة وفّر لكم الأُمور المادية، وكان القسم المهم منها - خاصّة في ذلك العصر - الأنعام والمطايا من النياق وغيرها. ومن جهة أخرى وفرّ لكم القوّة الكافية وهي "الأبناء" للحفاظ على الأنعام وتدجينها...

وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة، فعند عدّ النعم المادية تذكر الأموال أولا ثمّ الأبناء ثانياً، وهم الحفظة للأموال ومنمّوها، ويبدو أن هذا ترتيب طبيعي، لا أن الأموال أهم من الأبناء... إذ نقرأ في الآية (السادسة) من سورة الإِسراء... (وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً)...

ثمّ يضيف بعد ذلك: (وجنات وعيون).

وهكذا فقد وفر الله لكم سبل الحياة جميعاً، من حيث الأبناء أو القوّة الإِنسانية، والزراعة والتدجين ووسائل الحمل والنقل، بشكل لا يحس الإِنسان معه بأي نقص أو قلق في حياته!.

لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعاً، وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار، ولا تعرفون قدره؟!

وأخيراً، فإنّ هوداً في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب الله لهم، فيقول: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)...

ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم، وحب الذات وترك عبادة الله... ترون كل ذلك بأم أعينكم.

وعادة - يستعمل لفظ (اليوم العظيم) في القرآن، ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه... إلاّ أنّه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على الأُمم...

كما نقرأ في هذه السورة في قصة "شعيب"، أن قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه واستهزؤوا به، أرسل الله عليهم صاعقة "وكانت قطعة من الغيم" فعاقبهم بها، فسّمي ذلك اليوم باليوم العظيم، كما تقول الآية: (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنّه كان عذاب يوم عظيم).

فبناءً على هذا قد يكون التعبير بـ "يوم عظيم" في الآية محل البحث، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود (عاد) بالعذاب الأليم وهو الاعصار المدمر، وسيتجلى الشاهد على هذا المعنى في الآيات المقبلة...

كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه... أو إلى العذابين معاً، فيوم الاعصار يوم عظيم،ويوم القيامة يوم عظيم أيضاً...


1- "الرجم" مأخوذ من (رجام) على وزن (كتاب) وهو جمع (رجمة) على وزن (لقمة) ومعناها القطعة من الحجر التي توضع على القبر، أو ما يطوف حوله عبدة الأوثان، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى القتل، كما يأتي أحياناً بمعنى القتل بأيّ شكل كان، لأن القتل كان بالحجر سابقاً.

2- لما كانت "عاد" قبيلةً، وتتألف من جماعة من الناس أُنث الفعل كما يُرى، فجاء (كذبت عاد) لأنّ لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان...

3- مجمع البيان: ذيل الآية محل البحث، نور الثقلين، ج 4، ص 63.

4- التماصع، التطاحن والقتال. (المصحح).

5- تفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.