الآية 77

﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُاْبِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا(77)﴾

التّفسير

لولا دعاؤكم، لما كانت لكم قيمة: هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة، وللأبحاث التي بصدد صفات "عباد الرحمن" في الآيات السابقة، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً النّبي(ص): (قل ما يعبؤبكم ربّي لو لا دعاؤكم).

"يعبؤ" من مادة "عبء" بمعنى "الثقل"، وعلى هذا فجملة لا يعبأ يعني لايزن، وبعبارة أُخرى لا يعتني.

ولو أن احتمالات كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى الدعاء، لكن أساس جميعها يعود إلى أصل واحد.

فذهب البعض: إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى المعروف للدعاء.

بعض آخر فسّره بمعنى الإيمان.

وبعض بمعنى العبادة والتوحيد.

وآخر، بمعنى الشكر.

وبعض: بمعنى التضرع إلى الله في المحن والشدائد.

لكنّ أساس جميعها هو الإيمان والتوجه إلى الله.

وبناء على هذا، يكون مفهوم الآية هكذا: إن ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو الإِيمان بالله والتوجه إليه، والعبودية له.

ثمّ يضيف تعالى: (فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً).

من الممكن التصور أن تضاداً بين بداية الآية ونهايتها، أو أنّه لا يبدو على الأقل الإرتباط والإنسجام اللازم بينهما، ولكن إذا دققنا قليلا يتّضح أنّ المقصود أساساً هو: أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات الله وبأنبيائه، فإذا لم تتوجهوا إلى الله، ولم نسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له، فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.(1)

ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير، الحديث المنقول عن الإمام الباقر(ع) ، أنّه سُئِلَ: "كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء"؟ فقال(ع): "كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية".(2)

بحث

الدعاء طريق إصلاح النفس ومعرفة الله: معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية، حيث كانت الآية أعلاه أنموذجاً منها، غير أن قد يكون القبول بهذا الأمر ابتداءً صعباً على البعض، كأنّه يقال: الدعاء عمل سهل جدّاً، ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون: الدعاء عمل المغلوبين على أمرهم، الأمر الذي لا أهمية له.

لكن الإشتباه هنا ينشأ من أنّهم ينظرون إلى الدعاء الخالي من شرائطه، في حين إذا أخذت الشرائط الخاصّة للدعاء بنظر الإعتبار، فإن هذه الحقيقة تثبت بوضوح. وهي أن الدعاء وسيلة مؤثرة في إصلاح النفس، والإرتباط القريب بين الله والإنسان.

أوّل شرائط الدعاء، معرفة المدعو.

الشرط الثاني: تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه تبارك وتعالى، ذلك لأن الإنسان حينما يذهب باتجاه أحد، ينبغي أن يملك الإستعداد للقائه.

الشرط الثّالث للدعاء: هو جلب رضاه من يدعوه الإنسان، ذلك لأنّه لا يحتمل التأثير بدون ذلك الأنادراً.

وأخيراً فالشرط الرّابع لاستجابة الدعاء: هو أن يستخدم الإنسان كلّ قدرته، وقوته واستطاعته في عمله، ويؤديه بأعلى درجة من الجدّ والإجتهاد، ثمّ يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في ماوراء ذلك.

ذلك لأنّه ورد صريحاً في الرّوايات الإسلامية، أن الإنسان إذا قصّر في العمل الذي يستطيع أن يؤديه بنفسه، ثمّ يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه.

من هنا، فإنّ الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجمالية والجلالية، ووسيلة أيضاً للتوبة من الذنب، ولتطهير الروح، وسبب أيضاً لأداء الحسنات للجهاد والجدّ والاجتهاد إلى منتهى الإستطاعة.

لهذا نجد عبارات مهمّة حول الدعاء لا يمكن فهمها إلاّ على ضوء ما قلناه، مثلا:

نقرأ في رواية عن النّبي(ص): "الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض".(3)

ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي(ع): "الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي".(4)

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(ع): "الدعاء أنفذ من السنان".(5)

فضلا عن كل ذلك، فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة الإنسان، فتغرقه في اليأس من حيث الأسباب الظاهرية، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز، ووسيلة مؤثرة في مواجهة اليأس والقنوط.

لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة، يمنح الإنسان قدرة وقوة وأملا وطمأنينة، وأثراً لا يمكن إنكاره من الناحية النفسية.

وقدّمنا بحثاً مفصلا بصدد مسألة الدعاء، وفلسفته، وشرائطه، ونتائجه، في التّفسير الأمثل ذيل الآية (186) من سورة البقرة، فتفضل بمراجعته هناك من أجل التوضيح أكثر.

اللّهمّ، أجعلنا من خاصّة عبادك، وترحم علينا بتوفيق اكتساب خصائص وصفات "عباد الرحمن".

ربّنا، افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سبباً لتثمين وجودنا بين يديك.

اللّهمّ، تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين يديك، ولا تحرمنا من الإستجابة.

إنّك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

نهاية سورة الفرقان


1- أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه الآية "علي بن إبراهيم"، ومؤلف كتاب نور الثقلين في تفسيريهما.

2- يراجع تفسير "القرطبي" وتفسير "الفخر الرازي".

3- الآية أعلاه من الآيات التي هي مورد مناقشات كثيرة بين المفسّرين، وما قلناه في تفسيرها هو أوضح تفسير، لكن جماعة من المفسّرين المعروفين ذكروا لها تفسير آخر خلاصته هكذا.

لا اعتناء لله بكم، ذلك لأنّكم كذبتم بآياته، إلاّ أن الله يدعوكم إلى الإيمان (طبقاً لهذها التّفسير: "دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول، وفاعله ضمير يعود إلى "ربّي".

لكن طبقاً للتفسير الذي اخترناه فإن "دعاؤكم" من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، وظاهر إضافة المصدر إلى الضمير هي أن تكون الإضافة إلى الفاعل، إلاّ أن تظهر قرينة على خلافه).

ثمّة تفسير ثالث لهذه الآية وهو أنّ الهدف بيان: إنّكم أيّها البشر، غالباً ما سلكتم طريق التكذيب، فلا وزن ولا قدر لكم عند الله، إلاّ لأجل تلك الأقلية مثل "عباد الرحمن" الذين يتوجهون إلى الله ويدعونه بإخلاص (هذا التّفسير وإن كان صحيحاً من ناحية المعنى والمضمون، لكنّه لا يوافق ظاهر الآية كثيراً، ذلك لأنّ الضمير في "دعاؤكم" و"كذبتم" يعود ظاهراً إلى فئة واحدة لا فئتين (فتأمل!).

4- تفسير الصافي، ذيل هذه الآية ـ نقلوا لهذه الرّواية أيضاً تفاسير أُخرى يتفاوت يسير، نقلت أيضاً روايات أُخرى شاهدة على التّفسير أعلاه، بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي، وبعضها عن تفسير علي بن إبراهيم ذيل هذه الآية.

5- اُصول الكافي، الجزء الثّاني، أبواب الدعاء باب أن الدعاء سلاح المؤمن.