الآيات 72 - 76
﴿وَ الَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِااللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأَيَـتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً(73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَجِنَا وَذُرِّيَّـتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً(74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروُاْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـماً(75) خَـلِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً(76)﴾
التّفسير
جزاء "عباد الرحمن":
في متابعة للآيات الماضية التي كررت القول في خصائص "عباد الرحمن"، تشرح هذه الآيات بقية هذه الصفات:
الصفة الرفيعة التاسعة لهم، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين: إنّ هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقاً: (والذين لا يشهدون الزور).
المفسّرون الكبار فسّروا هذه الآية على نحوين: اعتبر بعضهم "الزور" بمعنى "الشهادة بالباطل" كما قلنا أعلاه، لأنّ "الزور" لغة بمعنى التمايل والإنحراف، وحيث أن الكذب والباطل والظلم من الإنحرافات، فإن "الزور" يطلق عليها.
هذه العبارة (شهادة الزور) في كتاب الشهادات في فقهنا، موجودة بنفس هذا العنوان، وقد نُهي عنها في روايات متعددة، وإن لم نرفي تلك الرّوايات استدلالا بالآية أعلاه.
التّفسير الآخر: هو أنّ المقصود من "الشهود" هو "الحضور" يعني أن عباد الرحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل.
وفي بعض الرّوايات التي وردت عن طرق أئمّة أهل البيت(ع) ، فسّرت بـ "الغناء" أي تلك المجالس التي يتمّ فيها إنشاد اللهو مصحوباً بأنغام الآلات الموسيقية أو بدونها.
لا شك أنّ مراد هذا النوع من الرّوايات ليس هو تحديد مفهوم "الزور" الواسع بـ "الغناء"، فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.
ولا يستبعد أيضاً أن يجتمع كلا التّفسيرين في معنى الآية، وعلى هذا فعباد الرحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس - فضلا عن ارتكاب الذنب - فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح.
ثمّ يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً).
إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو والبطلان. ومع الإلتفات إلى أن "اللغو" يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي، فإن ذلك يدل على أن "عباد الرحمن" يتحرون دائماً الهدف المعقول والمفيد والبناء، وينفرون من اللاهدفية والأعمال الباطلة، فإذا اعترضهم هذا النوع من الأعمال في مسير حياتهم، مروا بمحاذاتها مرور اللامبالي، ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال، فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم.
ولا شك أنّ عدم اعتنائهم بهذه الاُمور من جهة أنّهم لا طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن المنكر، وإلاّ فلا شكّ أنّهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الأخيرة.
الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والأذن السامعة حين مواجهتهم لآيات الخالق، فيقول تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربّهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً).
من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات الله أصلا، بل إن المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة، دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها، فيعرفوا ما يريده الله ويتفكروا فيه، ويستهدوه في أعمالهم.
ولا يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين، فالأذن السامعة والعين الباصرة لازمتان لطي هذا الطريق، العين الناظرة في الباطن، المتعمقة في الأشياء، والأذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة.
ولو تأملنا جيداً لأدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات الأعين والآذان الموصدة وفي ظنها أنّها تتبع الآيات الإلهية، ليس أقلّ من ضرر الأعداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق اصرار، بل أن ضررهم أكثر بمراتب أحياناً.
التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود، لأنْ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه يتم الإنحراف عن الخط الأصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.
هذا النوع من الأفراد أداة بيد الأعداء، ولقمة سائغة للشياطين، المؤمنون وحدهم هم المتدبرون المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ، فلا يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك.
نقرأ في حديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عزَّوجلّ: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً) ، قال: "مستبصرين ليسوا بشكاك".(1)
الصفة الثّانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء (والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).
بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إن الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم واجتهادهم.
من المسلَّم أنّ أفراداً كهؤلاء لا يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم وأزواجهم، وتعريفهم بأصول وفروع الإسلام، وسبل الحق والعدالة وفي ما لا تصل إليه قدرتهم وطاقتهم، فإنّهم يدعون الله، يسألونه التوفيق بلطفه.
فالدعاء الصحيح من حيث الأصل، ينبغي أن يكون هكذا: السعي بمقدار الإستطاعة، والدعاء خارج حدّ الإستطاعة.
"قرّة العين" كناية عمّن يُسرَّ به، هذا التعبير أُخذ في الأصل من كلمة "قر" التي بمعنى البرد، وكما هو معروف (وقد صرح به كثير من المفسّرين) أن دمعة الشوق والسرور باردة، ودموع الحزن والغم حارة حارقة، لذا فـ "قرّة عين" بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين الإنسان، يعني أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه، وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح.(2)
مسألة تربية الأبناء وإرشاد الزوجات، ومسؤولية الآباء والأمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن، وسنفصل القول فيها إن شاء الله في ذيل الآية (السادسة) من سورة التحريم.
وأخيراً فالصفة الرفيعة الثّالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً.
إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى.
لذا يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: (واجعلنا للمتقين إماماً).
ينبغي الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، إنّهم لا يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافاً، بل إنّهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جداً، وله شرائط صعبة وثقيلة.
ولا ننس أنّ القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان "عباد الرحمن". نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامّة تشمل الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامّة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.
أُولئك نماذج وأُسوات المجتمع الإنساني.
أُولئك قدوات المتقين.
إنّهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة، ومن السقوط في المزالق.
نقرأ في روايات متعددة أنّ هذه الآية نزلت في علي(ع) وائمّة أهل البيت(ع).
ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق(ع): "إيانا عنى".(3)
ولا شك أن أئمة أهل البيت(ع) من أوضح مصاديق هذه الآية، لكن هذا لا يمنع من اتساع مفهوم الآية، فالمؤمنون الآخرون أيضاً يكون كل منهم إماماً وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.
واستنتج بعض المفسّرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم فقط، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضاً.(4)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة "إمام" وإن كانت للمفرد، إلاّ أنّها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هي في الآية.
بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم الإلهي (أُولئك يجزون الغرفة بما صبروا).
"غرفة" من مادة "غرف" (على وزن حرف): بمعنى رفع الشيء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول "غرفة" (كاغتراف الإنسان الماء من العين بيده للشرب) ثمّ أُطلقت على الأقسام العليا من البناء، ومنازل الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنّة.
لذلك فإنّ "عباد الرحمن" بامتلاكهم هذه الصفات، يكونون في الصف الأوّل من المؤمنين، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنّة أعلى درجة أيضاً.
المهم أنّه يقول: إن هذا المقام العالي قد أُعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والإستقامة في طريق الله، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من أوصافهم، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفاً جديداً، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وإلاّ فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق، ومواجهة الطغيان والشهوات، وترك شهادة الزور، والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة.
هذا البيان يُذكّر الإنسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي(ع) حيث يقول: "والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد" فبقاء الجسد من بقاء الرأس، ذلك لأن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ الإنسان.
وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم، وإذا فسر في بعض الرّوايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي، فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.
ثمّ يضيف تعالى: (ويلقّون فيها تحية وسلاماً).
أهل الجنّة يحي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم ويُسلم عليهم، كما نقرأ في الآية (58) من سورة يس (سلام من ربّ رحيم) ، ونقرأ في الآية (23 و24) من سورة يونس (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم...).
تُرى هل لـ "التحية" و"السلام" هنا معنيان، أم معنى واحد!؟ ثمّة أقوال بين المفسّرين، لكن مع الإلتفات إلى أن "التحية" في الأصل بمعنى الدعاء لحياة الغير، و"سلام" من مادة السلامة، وبمعنى الدعاء للغير.
على هذا نستنتج: أن الكلمة الأُولى بعنوان طلب الحياة، للمخاطب والكلمة الثّانية طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحياناً.
"التحية" في العرف لها معنى أوسع، فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الآخرين، فيكون سبباً في سرورهم واحترامهم وإظهار المحبّة لهم.
ثمّ يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً).
1- عوالي اللئالي، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 33.
2- "متاب" مصدر ميمي بمعنى التوبة، ولأنّه مفعول مطلق هنا، فهو للتوكيد.
3- نور الثقلين، ج4، ص 43 .
4- الشاهد على هذا القول، الشعر الذي نقله القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب.
فكم سخنت بالأمسِ عينٌ قريرة وقرتْ عيون دمعها اليوم ساكب.