الآيات 45 - 50
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الضِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا(45) ثُمَّ قَبَضْنَـهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورَاً(47) وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَ طَهُوراً(48) لِّنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً(49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَـهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً(50)﴾
التّفسير
حركة الظلال:
في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية، على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة الله، الأُمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقرباً منه، ومع الإلتفات إلى أنّ المحاورات الكثيرة في الآيات الماضية كانت مع المشركين، تتّضح صلة وارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة.
في هذه الآيات، كلام في نعمة "الضلال" ثمّ في آثار وبركات "الليل" و"النوم و الإستراحة" و"ضياء" النهار و"هبوب الرياح" و"نزول المطر" و"إحياء الأراضي الموات" و"سقاية" الأنعام والناس.
يقول تعالى أولا: (ألم تر إلى ربّك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكناً).
لا شك أنّ هذا الجزء من الآية إشارة إلى أهمية نعمة الظلال الممتدة والمتحركة.
الظِلال التي لا تثبت على حال، بل هي في حركة وانتقال.
ولكن أي ظل هو المقصود بالآية؟ ثمّة أقوال في أوساط المفسّرين:
بعضهم يقول: هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك، هذا النور الشفاف، والظل المنبسط، يبدأ عند طلوع الفجر، يتلاشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء.
و يرى البعض الآخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه، الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند لحظة طلوع الشمس، لأنّنا نعلم أنّ الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس، وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الآخر ومنتشراً في الفضاء الواسع. وهذا الظل المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في أُخرى.
وقال آخرون: المقصود هو الظل الذي يظهر للأجسام بعد الظهر فينبسط شيئاً فشيئاً بالتدريج.
طبيعي، أنّه لو لم تكن الجمل الآتية، لكنّا نفهم من هذه الجملة معنىً واسعاً يشمل جميع الظلال الشاسعة، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التّفسير الأوّل أكثر تناسباً، لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك: (ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا).
إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس، فالظل من حيث الأصل يخلق بسبب ضياء الشمس، لأنّ "الظل" يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الأشياء فيها، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسماً مانعاً لنفوذ النور، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة. بناءً على هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقاً لقاعدة "تعرف الأشياء بأضدادها" فقط، بل إنّ وجوده أيضاً من بركة النور.
بعد ذلك يبيّن تعالى: ثمّ إنّنا نجمعه جمعاً وئيداً (ثمّ قبضناه إلينا قبضاً يسيراً).
من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق، لأنّ الشمس آنئذ تستقر تماماً فوق رأس كل موجود، وفي مناطق أُخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً، وهذا نفسه حكمة الخالق، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات. لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة الإنتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات، دون أن يكون له أي ضرر.
التعبير بـ "يسيراً" إشارة إلى انقباض الظل التدريجي، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق. وكلمة (إلينا) تأكيد على هذه القدرة أيضاً.
على أية حال، لا شك أن الإنسان كما يحتاج إلى أشعة "النور" في حياته، فهو كذلك يحتاج إلى "الظل" لتعديل ومنع "النور" أوقات اشتداده، فكما أنّ أشعة النور المستديمة تربك الحياة، كذلك فإنّ الظل الدائم الساكن مهلك أيضاً.
في الحالة الأُولى تحترق جميع الموجودات، وفي الحالة الثّانية تنجمد جميعاً، ولكن هذا النظام المتناوب من "النور" و"الظل" هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة للإِنسان.
لذا فإنّ آيات قرآنية أُخرى تعدُّ وجود الليل والنهار، الواحد تلو الآخر، من النعم الإلهية العظيمة، ففي موضع يقول تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون). ويضيف مباشرة (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون).(1)
و يستنتج من هذا القول أنّ هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا فيهما، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله، ولعلكم تشكرون (و من رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).(2)
ولهذا يعد القرآن "الظل الممدود" إحدى نعم الجنّة، حيث لا نورَ مُعش مرهق، ولا ظلمة موحشة.
بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أُخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله، يقول تعالى: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً).
كم هو تعبير جميل ورائع (جعل لكم الليل لباساً)... هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.
ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم (و النوم سباتاً).
"السبات" في اللغة من "سبت" (على وزن وقت) بمعنى القطع، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب "يوم السبت" وهي تسمية أُخذت من طريقة اليهود، لأنّه يوم تعطيلهم.
هذا التعبير - في الحقيقة - إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم، لأنّنا نعلم أن قسماً مهماً من الأفعال البدنية يتوقف كلياً في حال النوم، وقسماً آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّاً، ويستمر بصورة أكثر هدوءً كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى.
النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوّة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب، بعكس الأرق خصوصاً لفترة طويلة - فهو ضارٌ جدّاً وقد يؤدي الى الموت أيضاً. ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة.
وفي ختام الآية، أشار تعالى إلى نعمة "النهار" فقال تعالى: (وجعل النهار نشوراً).
كلمة "النشور" في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض. نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(ص) أنّه كان يقول كل صباح: "الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور".(3)
فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء.
في عالم الطبيعة أيضاً، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعاثٌ فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور، أمّا عند مغيب الشمس، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون، الطيور تؤوب إلى أوكارها، الموجودات الحية تفيء إلى الإستراحة والنوم، حتى النبانات تغطُّ في نوع من النوم.
بعد بيان هذه المواهب العظيمة - التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية - يتناول القرآن الكريم موهبة أُخرى مهمّة جدّاً فيقول: (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً).
لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية، وإلاّ فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبداً.
صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.
والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض، سبب رواء الجفاف على الأرض، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار، ونمو أنواع النباتات.
إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز.
التعبير بـ "الرياح" بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.(4)
المهم هنا هو أن "الماء" قد وصف بـ "الطهور" التي هي صيغة مبالغة من الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته، ويطهر الأشياء الملوثة... ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها!
وعلى أية حال، فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة، ولكنّه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة). ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّاً في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض.
مضافاً إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.
لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثّانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: (لنحي به بلدة ميتاً) (5).
وأيضاً (ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً).
ملاحظات
و هنا ملاحظات مهمّة:
1 - في هذه الآية ورد الكلام عن الأنعام والأناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد من ماء المطر!!
هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقاً سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر السُحب في السماء ويمطل عليهم المطر، وتمتلىء الأراضي المنخفضة من ماء المطر الزلال، فيرتوون منه ويسقون انعامهم، ويشعرون بنشاط الحياة يدبُّ في وجودهم ووجود أنعامهم.
2 - جملة "نسقيه" من مادة "إسقاء" وفرقها عن "سقى"كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسّرين، هو أنّ الإسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية، ليشرب منه الإنسان متى أراد، في حين أن مادة "سقى" بمعنى أن يُعطى من يريد الماء حتى يشرب، وبعبارة أخرى فإن الإسقاء له معنىً أوسع وأعم.
3 - في هذه الآية، ورد الكلام أوّلا عن الأراضي الميتة، ثمّ الأنعام ثمّ الأناسي، وهذا التعبير ربّما كان لأن الأراضي إذا لم تحي بالمطر، فلن يكون للأنعام طعام، وإذا لم تعش الأنعام، فلن يستطيع الإنسان إن يتعذى منها.
4 - طرح مسألة الإِحياء بالماء بعد مسألة التطهير، قد يكون إشارة إلى الإِرتباط الوثيق بين هاتين المسألتين (حول آثار الإِحياء بالماء، ثمّة بحث مفصل في ذيل الآية 30 سورة الانبياء).
في الآية الأخيرة - مورد البحث - يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلاّ الإنكار والكفران: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).
وإن أرجع كثير من المفسّرين مثل العلامة الطبرسي في تفسيره، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان، والعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين، الضمير في جملة "صرفناه" إلى المطر، حيث يكون مفهومها هكذا: أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الأرض، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى.
لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته، لأن هذا التعبير (بصيغة الفعل الماضي والمضارع) ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد، حيث أُرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة، وأُتبع بجملة "ليذكروا" أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جداً أن يأخذ هذا التعبير مفهوماً آخر في هذا المورد الواحد.
و من حيث الأصل فإنّ "تصريف" التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر، في وقت هي أكثر تناسباً مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة، أحياناً بصورة وعد، وأحياناً بصورة أمر، وأُخرى بصورة نهي، وأحياناً بصورة قصص الماضين.
1- سورة النازعات، الآية 40.
2- سفينة البحار، ج 1، ص 689 (مادة شجع).
3- القصص، 71 و72.
4- القصص، 73.
5- تفسير القرطبي.