الآيات 27 - 29

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَـلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27) يَـوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَـنُ لِلاِْنسَـنِ خَذُولا(29)﴾

سبب النّزول

"قال ابن عباس: نزل قوله تعالى: (ويوم يَعض الظالم) في عقبة بن أبي معيط، وأُبي بن خلف، وكانا متخالّين، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرّسول، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً ودعا الناس، فدعا رسول الله(ص) إلى طعامه، فلما قربوا الطعام قال رسول الله (ص): ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وبلغ ذلك أُبي بن خلف فقال: صبئتَ يا عقبة؟ قال: لا والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدتُ له فطعم، فقال أُبي: ما كنتُ براض عنك أبداً حتى تأتي فتبزق في وجهه، ففعل ذلك عقبة وارتدَّ، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي(ص): لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوتُ رأسك بالسيف، فضرب عنقه يوم بدر صبراً، وأمّا أُبي بن خلف فقتله النبي(ص) يوم أُحد بيده في المبارزة".

وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله(ص) عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى مات.

وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر الله تعالى.(1)

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يُبتلى بخليل ضال، ويجره إلى الضلال.

وقلنا مراراً أنّ سبب النّزول وإن يكن خاصّاً، إلاّ أنّه لا يقيد مفهوم الآيات أبداً، وعمومية المفهوم تشمل جميع المصاديق.

التّفسير

أضلني صديق السوء يوم القيامة له مشاهد عجيبة، حيث ورد بعضٌ منها في الآيات السابقة، وفي هذه الآيات اشارة الى قسم آخر منها، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم، يقول تعالى أوّلا: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرّسول سبيلا) (2).

"يعضّ" من مادة "عضّ" (على وزن سدّ) بمعنى الأزم بالأسنان، ويستخدم هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف، كما في المثل العربي، لأن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يعض الإصبع دائماً، بل يعض ظاهر اليد أحياناً، وكثيراً ما يقال - كما في الآية الآية مورد البحث - "يديه" يعني كلتا اليدين حيث تبيّن شدّة الأسف والحسرة بنحو أبلغ.

و هذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فيصممون على الأِنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.

وينبغي حقّاً، أن يسمى ذلك اليوم (يوم الحسرة) كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم القيامة أيضاً (سورة مريم الآية 39) ، ذلك لأن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي الحياة الخالدة، في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلال أيام من الصبر والإستقامة ومجاهدة النفس والإيثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة، وهو يوم أسف أيضاً حتى بالنسبة إلى المحسنين، فهم يأسفون على أنّهم: لماذا لم يحسنوا أكثر.

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف، يقول:(يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا).(3)

واضح أن المقصود بـ "فلان" هو ذلك الذي أضله: الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال، وفردٌ مثل "أُبي" لـ "عقبة" الذي ورد في سبب النّزول.

هذه الآية - والآية التي قبلها - تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد، يقول تعالى: (يا ليتني اتخذتُ مع الرّسول سبيلا) ، وهنا يقول: (...ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا) حيث كانت التعاسة كلها في ترك الإرتباط بالنّبي(ص) ، وقبول الإرتباط بهذا الخليل الضال.

ثمّ يستمر ويقول: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذجاءني).

لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين الإيمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد، ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدّني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئاً وأغرقني في دوامة التعاسة.

"الذكر" في الجملة أعلاه، له معنىً واسع، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية، بل يدخل في إطاره كلُّ ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.

وفي ختام الآية يقول تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثمّ يتركه حيران ويذهب لسبيله، وينبغي الإنتباه إلى أنّ "خذولا" صيغة مبالغة، بمعنى كثير الخذلان.

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.

في هذه الجملة الأخيرة (وكان الشيطان للإنسان خذولا) قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل الإنذار لجميع الظالمين والظالين، أو تتمة لمقولة هؤلاء الأفراد المتحسرين في القيامة، ذكر المفسّرون تفسيرين، وكل منهما منسجم مع معنى الآية، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاماً.

بحث

أثر الصديق في مصير الإِنسان:

لا شك في أن عوامل بناء شخصية الإِنسان - بعد عزمه وإرادته وتصميمه - أُمور مختلفة، من أهمها الجليس والصديق والمعاشر، ذلك لأنّ الإِنسان قابل للتأثر شاء أم أبى، فيأخذ قسطاً مهماً من أفكاره وصفاته الأخلاقية عن طريق أصدقائه، ولقد ثبتت هذه الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضاً.

قابلية التأثر هذه نالت اهتماماً خاصّاً لدى الإسلام إلى حدّ أنّه نقل في الرّوايات الإسلامية، عن نبيّ الله سليمان(ع) أنّه قال: "لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وأخدانه".(4)

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في خطبة له: "ومن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خلطائه، فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله، وإن كانوا على غير دين الله، فلا حظّ له من دين الله".(5)

حقّاً، إنّ أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحياناً، فقد يؤدي به إلى دركات الشقاء الأبدي، وقد يرقى به أحياناً إلى غاية المجد.

الآيات الحالية وسبب نزولها، تبيّن - بوضوح - كيف أنّ الإنسان قد يقترب من السعادة، لكنّ وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأساً على عقب وتقلب مصيره، حيث سيعضُّ على يديه من الحسرة يوم القيامة، وستتعالى منه صرخة "ياويلتى".

في كتاب "العِشرة" وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع، تبيّن أن الإسلام شديد ودقيق وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق.

نُنهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع، ومن أراد الإطلاع أكثر في هذا الموضوع فليراجع كتاب "العشرة" من بحار الأنوار، الجزء 74.

نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة الإسلام العظام، الإمام محمد التقي الجواد(ع) "اِيّاك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره".(6)

وقال الرّسول الأكرم(ص): "أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب... ومجالسة الموتى" قيل له: يا رسول الله، وما الموتى؟ قال: "كل غني مترف".(7)


1- سوره البقرة، الآية 255.

2- سورة المرسلات، الآية 36.

3- مجمع البيان، ج 7، ص 166 .

4- جملة (يوم يعض الظالم...) عطف على "يوم يرون" التي مضت قبل عدّة آيات، بعض يعتبرها أيضاً متعلقة بجملة مقدرة "اذكر".

5- "خليل" تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه. وللخليل معان أخرى أيضاً قد أوردناها في ذيل الآية (125) من سورة النساء.

6- سفينة البحار، ج 2، ص 27 مادة (صدق).

7- بحار الأنوار، ج 74، ص 197 .