الآيات 21 - 24

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَيَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوَّاً كَبيراً(21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَـئِكَةَ لاَبُشْرَى يَوْمَئِذ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقوُلُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً(22) وَقَدِمْنآ إِلَى مَا عَمِلوُاْ مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَـهُ هَبَآءً مَّنثُوراً(23) أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذ خَيْرٌ مُّستَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلا(24)﴾

التّفسير

الإدعاءات الكبيرة:

قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانوا يقولون تارةً: لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة.

الآيات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها، فيقول تعالى أوّلا: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا).

فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا مالا يمكن القبول به، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضاً من الوحي!؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة!؟

هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد(ص).

المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان (لا يرجون لقاءنا) ، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله.

في الآية (السابعة) من سورة الحجر نقرأ أيضاً شبيهاً لهذا القول، حيث قالوا (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) وقرأنا أيضاً في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).

في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما، أن يطالب بالدليل فقط. أمّا نوع الدليل، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه، في الوقت الذي أثبت رسول الله(ص) بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه - حقانية دعوته بوضوح، إذن فما معنى هذه الذرائع؟

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143 .

لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً).

"العتو" على وزن "غلو"، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر، مصحوباً بالعناد واللجاجة.

و تعبير "في أنفسهم" من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

في عصرنا وزماننا أيضاً، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين، فيقولون: مادمنا لا نرى الله في مختبراتنا، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهوا الإستكبار والعتو.

و من حيث الأصل، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلاّ جزءً ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم.

ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الامر، لكن (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين).(1)

بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإِستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإِحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون: الأَمان.. الأَمان، اعفوا عنّا: (ويقولون حجراً محجوراً).

ولكن لا هذه الجملة - ولاغيرها - لها أثر على مصيرهم المحتوم، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم.

كلمة "حجر" (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال "حجر إسماعيل" فلأن حائطاً أُنشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً "حجراً" لأنّه يمنع الانسان من الأعمال المخالفة. لذا نقرأ في الآية (الخامسة) من سورة الفجر (هل في ذلك قسم لذي حجر) ، وأيضاً "اصحاب الحجر" الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.

هذا في ما يخص كلمة "حجر".

أمّا جملة "حجراً محجوراً"فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.

كان هذا عرف العرب، خاصّة في الأشهر الحرم، حيث كانت الحرب ممنوعة، فحينما يواجه شخص آخر، ويحتمل خرق هذا العُرف والتعرض للأذى، فإنّه يكرر هذه الجملة، والطرف المقابل - أيضاً - مع سماعة لها كان يعطيه الأمان، فيخرجه من القلق والإضطراب والخوف.

على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو: "أريد الأمان، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير".(2)

اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية، والسير التاريخي، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب - أيضاً - يستدعي هذا، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول، و هدفهم منع المشركين من رحمة الله.

وقال آخرون: إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون، يقولونه بعضهم لبعض، ولكن الظاهر هو المعنى الأول، حيث اختاره كثير من المفسّرين، أو ذكروه كأوّل تفسير لذلك.(3)

أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين: أحدهما: هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم). والثّاني: أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم.

و مع الإنتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور، خصوصاً جملة (يومئذ) التي تشير إليه، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب.

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة، فتقول: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً).

كلمة "العمل" على ما قاله "الراغب" في المفردات بمعنى: كل فعل يكون بقصد، ولكن الفعل أعم منه، فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد.(4)

جملة "قدمنا" من "القدوم" بمعنى "المجيء" أو "الذهاب على أثر شيء" وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة، يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة - وإن كانت أعمال خير ظاهراً - سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء، لشركهم وكفرهم.

آفات العمل الصالح:

كلمة "هباء" بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها.

هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة.

هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول: (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف).

الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، وخطط سليمة صحيحة، في حين أن من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.

على سبيل المثال، نحن نعرف مساجد من مئات السنين، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير، وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة، فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط.(5)

من وجهة نظر المنطق الإسلامي، فإن للأعمال الصالحة آفات، ينبغي مراقبتها بدقة، فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية، كمثل العمل الذي يتخذ (رياءً).

و احياناً اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك.

و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية، كمثل الإنفاق الذي تتبعه "منّة"، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد.

حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدها - طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية - كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً.(6)

على أية حال، فللإسلام منهج فذ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(ع) قال: يبعث الله عزَّوجلّ يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: (كن هباءً منثوراً) ثمّ قال: أمّا والله - يا أبا حمزة - إنّهم كانوايصومون ويصلون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين (ع) أنكروه، قال: والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس".(7)

و بما أن القرآن - عادة - يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنّة فتقول: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا).

ليس معنى هذا الكلام أنّ وضع أهل جهنم حسن، ووضع أهل الجنّة أحسن، لأنّ صيغة "أفعل التفضيل" تأتي أحياناً حيث يكون أحد الأطراف واجداً للمفهوم، وآلاخر فاقداً له كلياً. مثلا نقرأ في الآية (40) من سورة فصّلت: (أفمن يُلقى في النّار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة).

"مستقر" بمعنى محل الإستقرار.

و "مقيل" بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار، من مادة "قيلولة"، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.


1- وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعلاه في كثير من التفاسير، ولكن ما ذكرناه أعلاه مطابق للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" ج 13، ص 5 دار إحياء التراث العربي / بيروت.

2- من أجل توضيح أكثر في مسألة الإختبارات الإلهية، والغاية من هذه الإختبارات وسائر أبعاد ذلك، بحثنا ذلك بشكل مفصّل في ذيل الآية (55) من سورة البقرة.

3- كلمة (لا) ها هنا، قد تكون للنفي، كما قال كثير من المفسّرين، ويحتمل أيضاً أن تكون لانشاء الدعاء السلبي، حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة، هكذا: "في ذلك اليوم لا كانت بشرى للمجرمين".

4- ومن الناحية الأدبية فإنّ "حجراً" مفعول لفعل مقدر و "محجوراً" جاءت للتوكيد، فهي في الأصل (أطلب منك منعاً لا سبيل إلى رفعه ودفعه).

5- تفسير الميزان، تفسير الفخر الرازي، في ظلال القرآن، تفسير أبو الفتوح الرازي، ذيل آية البحث.

6- يذهب (الراغب) الى هذا الفرق في مادة "عمل"، ولو أنّ له بياناً خلاف ذلك في مادة "فعل". لكن مع الإلتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحاً، طبعاً يمكن أن يكون له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل "عوامل".

7- بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيلا في (ذيل الآية 18 من سورة إبراهيم).