الآيات 11 - 16

﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَاَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانِ بَعيد سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً(12) وَإِذَآ أُلْقُوأ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَواْ هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لاَّ تَدْعُواْ الْيَوَمَ ثُبُوراً وَحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً(14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً(15) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَـلِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولا(16)﴾

التّفسير

مقارنة بين الجنة والنار:

في هذه الآيات - على أثر البحث في الآيات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والنّبوة - يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والإِنحراف في تمام أصول الدين، في التوحيد، وفي النبوة، وفي المعاد، حيث ورد القسمان الأولان منه في الآيات السابقة، ونقرأ الآن القسم الثالث:

يقول تعالى أوّلا: (بل كذبوا بالساعة).

وبما أنّ كلمة "بل" تستعمل لأجل "الإِضراب" فيكون المعنى: أن ما يقوله أُولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة، إنّما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد، ذلك أنه إذا آمن الانسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإِلهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإِستهزاء واللامبالاة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النّبي وبراهينه الظاهرة، ولن يتذلل أمام الأصنام التي صنعها وزينّها بيده.

لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي، ذلك لأن هذه الفئة لم تكن من أهل الإِستدلال والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلا: (واعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً).(1)

ثمّ وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً، فيقول تعالى: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).

في هذه الآية، تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإِلهي:

1 - إنّه لا يقول: إنّهم يرون نار جهنم من بعيد، بل يقول: إن النار هي التي تراهم - كأن لها عيناً وأُذناً - فسمّرت عينها على الطريق بانتظار هؤلاء المجرمين.

2 - إنّها لا تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها، حتى تهيج، بل إنّها تزفر من مسافة بعيدة.. من مسافة مسيرة عام، طبقاً لبعض الروايات.

3 - وصفت هذه النار المحرقة بـ "التغيظ" وذلك عبارة عن الحالة التي يعبّر بها الإِنسان عن غضبه بالصراخ والعويل.

4 - إن لجهنم "زفيراً" يعني كما ينفث الإِنسان النفس من الصدر بقوة، وهذا عادة في الحالة التي يكون الإِنسان مغضباً جداً.

مجموع هذه الحالات يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه "نستجير بالله".

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى: (وإذا أُلقوا منها مكاناً ضيقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً).(2)

هذا ليس لأنّ جهنم صغيرة، فإنّه طبقاً للآية (30) من سورة ق (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) فهي مكان واسع، لكن أُولئك يُحصَرون مكاناً ضيقاَ في هذا المكان الواسع، فهم "يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط".(3)

كما أن كلمة "ثبور" في الأصل بمعنى "الهلاك والفساد"، فحينما يجد الإِنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك، فإنّه يصرخ عالياً "واثبورا" التي مفهومها ليقع الموت عليّ".

لكنّهم يجابون عاجلا (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً).

على أية حال، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.

هذه الآية في الحقيقة تشبه الآية (16) من سورة الطور حيث يقول تعالى (أصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون).

مَن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أنّهم ملائكة العذاب، ذلك لأنّ حسابهم مع هؤلاء.

وأمّا لماذا يقال لهم هنا: (لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً) ؟ ربّما كان ذلك لأنّ عذابهم الأليم ليس مؤقتاً فينتهي بقول (واثبورا) واحداً، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة، علاوة على أنّ العقوبات الإِلهية لهؤلاء الظالمين المجرمين متعددة الألوان، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل مجازاة، فتعلوا أصواتهم بـ (واثبورا) ، فكأنّهم يموتون ثمّ يحيون وهكذا.

ثمّ يوجه الخطاب إلى الرّسول(ص) ، ويأمره أن يدعو أُولئك إلى المقايسة، فيقول تعالى: (قل أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً).

تلك الجنّة التي (لهم فيها ما يشاؤون).

تلك الجنّة التي سيبقون فيها أبداً (خالدين).

أجل، إنّه وعد الله الذي اُخذه على نفسه: (كان على ربّك وعداً مسؤولا).

هذا السؤال، وطلب هذه المقايسة، ليس لأن أحداً لديه شك في هذا الأمر، وليس لأن تلك العذابات الأليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي لا نظير لها، بل إن هذا النوع من الأسئلة والمطالبة بالمقارنة لأجل إيقاظ الضمائر الهامدة، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد، وعلى مفترق طريقين:

فإذا قالوا في الجواب: إنّ تلك النعم أفضل وأعظم (وهو ما سيقولونه حتماً) فقد حكموا على أنفسهم بأنّ أعمالهم خلاف ذلك. وإذا قالوا: إنّ العذاب أفضل من هذه النعمة، فقد وقّعوا على وثيقة جنونهم، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شاباً ترك المدرسة والجامعة بقولنا: اعلم أنّ السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد، ترى السجن أفضل أم الوصول إلى المقامات الرفيعة!؟

ملاحظات

1 - ينبغي الإِلتفات أوّلا إلى هذه النكتة، وهي الايات الكريمة وصفت الجنّة بالخلود تارةً وصفة لأهل الجنّة تارةً أُخرى، ليكون تأكيداً على هذه الحقيقة، وهي كما أن الجنة خالدة، فكذلك ساكنوها.

2 - قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) جاءت في مقابل حال الجهنميين في الآية (54) من سورة سبأ (وحيل بينهم وبين ما يشتهون).

3 - التعبير بـ "مصير" بعد كلمة "جزاء" بالنسبة إلى الجنّة، كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم الجزاء، وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل النّار، حيث ورد في الآيات السابقة أنّهم يلقون في مكان ضيق محدود مقرنين بالأصفاد.

4 - قوله تعالى (كان على ربك وعداً مسؤولا) إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون من الله الجنّة وجميع نعمها، فهم السائلون، والله "المسؤول منه" كما نقرأ قول المؤمنين في الآية (194) من سورة آل عمران (ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك...) ، لسان حال جميع المؤمنين أيضاً، إنّهم يطلبون هذا الطلب من الله، لأن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى أن يطلب ذلك.

والملائكة كذلك يسألون الله الجنّة والخلود للمؤمنين، كما نقرأ في الآية (الثامنة) من سورة المؤمن: (ربّنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم...).

و يوجد هنا تفسير آخر، وهو أنّ كلمة (مسؤولا) تأكيد على هذا الوعد الإِلهي، الحتمي، يعني أنّ هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أنّ المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا الله به، وهذا يشبه ما إذا أعطينا وعداً لأحد، وأعطيناه - في الضمن - الحقَ في أن يطالبنا به.

قطعاً لا يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ (مسؤولا).

5 - بالإِلتفات إلى قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) ينشأ لدى البعض هذه السؤال: إذا أخذنا في الإِعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة، فنتيجة هذا أن أهل الجنّة إذا أرادوا مقام الأنبياء والأولياء يعطى لهم، مثلا، أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين المستحقين لجهنم، يعطون سؤلهم، وما سوى هذه الرغبات؟!

و يتّضح الجواب مع الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهو أنّ الحجب تزول عن أعين أهل الجنّة فيدركون الحقائق جيداً، ويتّضح تناسبها في نظرهم كاملا، إنّهم لا يخطر ببالهم أبداً أن يطلبوا من الله طلبات كهذه، وهذا يشبه تماماً أن نطلب في الدنيا من طفل في الإِبتدائية أن يكون اُستاذاً في الجامعة، أو أن يكون لصٌ مجرم قاضيَ محكمة... ترى هل تخطر مثل هذه الأُمور في فكر أي عاقل في الدنيا!؟ وفي الجنّة أيضاً كذلك، فضلا عن هذا فإنّ كلَّ إرادتهم في طول إرادة الله، وإنَّ ما يريدونه هو ما يريده الله.


1- "الخطبة القاصعة"، الخطبة 192 نهج البلاغة.

2- وكذلك الذين قالوا: إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الآخرة، فالفعلان الماضي والمضارع (جعل ويجعل) اللذان في الاية، ينبغي ألا يكونا باعثاً على هكذا وهم أيضاً، لأنّنا نعلم طبقاً لقواعد الأدب العربي، أن الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني.

3- "سعير" من "سَعْر" على وزن "قعر" بمعنى التهاب النار، وعلى هذا يقال للسعير: النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.