الآيات 7 - 10

﴿وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ االطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاَْسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(7) أَوْيُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْتَكوُنُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّـلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُوراً(8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمثَـلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا(9) تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا(10)﴾

سبب النّزول

في رواية عن الإِمام الحسن العسكري(ع) ، أنّه قال: قلت لأبي علي بن محمد(ع): هل كان رسول الله (ص) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال: مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول الله كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبدالله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد أدّعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا، تأكل كما نأكل وتمشي في الأسواق كما نمشي، فقال رسول الله: اللّهمّ أنت السامع لكل صوت، والعالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه: يا محمد: (وقالوا ما لهذا الرّسول...) إلى قوله تعالى (و يجعل لك قصوراً).(1)

التّفسير

لم لا يملك هذا الرّسول كنوزاً وجنات؟!

عُرض في الآيات السابقة قسم من إشكالات الكفار فيما يخص القرآن المجيد، وأجيب عليها، ويعرض في هذه الآيات قسم آخر يتعلق بشخص الرّسول(ص) ويجاب عنها، فيقول تعالى: (وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق).

ما هذا النّبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الأفراد العاديين؟ ويمشي في الأسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ولا طريقة الملوك والسلاطين! وفي الوقت الذي يريد هذا الرّسول التبليغ بالدعوة الإِلهية، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع!

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثمّ أضافوا: (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً) ، فلِمَ لم يُرسل إليه - على الأقل - ملك من عند الله، شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس!؟

حسن جداً، لنفرض أنّنا وافقنا على أن رسول الله يمكن أن يكون إنساناً، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال!؟ (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها).

ولم يكتفوا بهذا أيضاً، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها (وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً). ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم!

من مجموع الآيات أعلاه، يستفاد أنّ المشركين كانت لديهم عدّة إشكالات واهية حول الرّسول(ص) ، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة.

أوّلا: إنّه أساساً يجب أن يكون ملكاً، وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ليس ملكاً بالضرورة.

ثمّ قالوا: حسن جدّاً، إن لم يكن ملكاً، فيرسل اللّه - على الأقل - ملكاً يرافقه ويعينه.

ثمّ تنازلوا عن هذا أيضاً، فقالوا: لنفرض أن رسول الله بشر، فينبغي أن يُلقى إليه كنز من السماء، ليكون دليلا على أنه موضع اهتمام الله.

وقالوا في نهاية المطاف: لنفرض أنه لم يكن له أىٌّ من تلك الميزات، فينبغي على الأقل ألا يكون إنساناً فقيراً، فليكن كأي مزارع مرفه، له بستان يضمن منه معيشته. لكنّه فاقد لكلّ هذا مع الأسف، ويقول إنّني نبيّ!؟

واستنتجوا في الختام، أنّ ادعاءة الكبير هذا، في مثل هذه الشرائط، دليلٌ على أن ليس له عقل سليم.

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإِشكالات في عبارة موجزة: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن - الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله - ليخفوا وجه الحقيقة.

حقّاً، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج، الواهية: فنقول من دون الاجابة عليها بالتفصيل: انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي.

و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها، لأن:

أوّلا: لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم، كما يحكم به العقل والعلم، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الانسان تماماً، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الإِهتمام بالدنيا: إنّه ملك، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية، وعشرات (إذا) مثل تلك.

ثانياً: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!

ثالثاً: أكل الطعام كسائر الناس، والمشي في الأسواق يكون سبباً للإندماج بالناس أكثر، والغوص في أعماق حياتهم، ليؤدي رسالته بشكل أفضل.

رابعاً: عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة - و حتى القرب من الله - في الأثرياء خاصّة، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا: أيّها الإِنسان، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء، إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان.

خامساً: بأي مقياس كانوا يعتبرونه "مسحوراً" أو "مجنوناً"؟ الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية، كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم الأصنام ورفض الإِتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!

إتضح بناءً على ما قلناه أن (الأمثال) هنا، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية، ولعل التعبير عنها بـ (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية، في حال أنّها ليست كذلك واقعاً.(2)

و ينبغي أيضاً الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهي أنّ أعداء النّبي(ص) كانوا يتهمونه - بـ "الساحر" وأحياناً بـ "المسحور" وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن "المسحور" بمعنى "الساحر" (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً.

عندما يقال عنه بأنّه ساحر، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ "الساحر".

أمّا "المسحور" فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به، وعملوا على اختلال حواسه، هذا الإِتّهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم، ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية.

أمّا جواب جميع هذه الإِتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه و هنا يأتي هذا السؤال، وهو أنّه لماذا قال تعالى: (فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا).

الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما، إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه، أمّا من يتخذ موقفه - ابتداءً - على أساس أحكام مسبّقة خاطئة ومضلّة، نابعة من الجهل والتزمت والعناد، فمضافاً إلى أنّه لا يعثر على الحق، فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائماً.

الآية الأخيرة مورد البحث - كالآية التي قبلها - توجه خطابها إلى النّبي(ص) على سبيل تحقير مقولات أُولئك، وأنّها لا تستحق الإِجابة عليها، يقول تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).

و إلاّ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!

لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس.

أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن "الكنز" وحده ليس حلاّل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافاً الى أنّهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن معيشتك، أمّا القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.

ورد في "الخطبة القاصعه" من "نهج البلاغة" بيان معبر وبليغ: هنالك حيث يقول الإِمام(ع):

"... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(ع) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال: "ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُهبان، ومعادان العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله اُولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذىً.

و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزّة لا تُضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتِشدُّ إليه عُقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإِعتبار وأبعد لهم في الإِستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّاتُ مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والإِستكانة لأمره والإِستسلام لطاعته، أموراً له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والإِختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل".(3)

و الجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور، جنّة الآخرة قصورها، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه.(4)


1- "جاؤا" من مادة "مجيء": يراد بها عادة معنى "القدوم"، لكنّها وردت هنا بمعنى "الإتيان"، كما نقرأ أيضاً في الآية (81) سورة يونس أن موسى(عليه السلام) قال للسحرة "ما جئتم به السحر".

2- يعتقد جماعة من المفسّرين أنّ المراد من جملة (اكتتبها): هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد من الآخرين أن يكتبوا له هذه الآيات، وكذلك، جملة (تملى عليه) مفهومها: هو أنّ أُولئك كانوا يلقونها إليه، وكان هو يحفظها. لكنّه مع الإلتفات إلى أنّنا لا دليل لدينا على حمل هاتين الجملتين على خلاف الظاهر، يكون التّفسير الذي ورد في المتن هو الأصح، ففي الواقع إن أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الطريق، بأنّه يقرأ ويكتب، لكنّه كان يظهر نفسه أمياً عمداً.

3- تفسير نور الثقلين، الجزء 4، الصفحة 6 .

4- كثير من المفسّرين اعتبروا (الامثال) هنا بمعنى (التشبيهات) لكنّهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون، وبعض آخر اعتبر (الأمثال) هنا بمعنى (الصفات)، لأن أحد معاني (المثل) ـ طبقاً لما قاله الراغب في المفردات هو (الصفة)، فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي لا أساس لها، ذلك لأن ما في صدر وذيل الآية القرآنية أعلاه يدل على هذا المعنى، فمن جانب يقول بعنوان التعجب: انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول: الاوصاف التي تؤدي الى ضلالهم الذي لا هداية بعده.