الآيات 3 - 6

﴿وَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعَاً وَلاَ يَمْلِكونَ مَوْتاً ولاَ حَيَوةً وَلاَ نُشُوراً(3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّإفْكٌ افْتَرِاهُ وَأَعَانَهُ عَليْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُو ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُواْ أسَـطِيرُ الاَْوَّلينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيلا(5) قُلْ أنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(6)﴾

التّفسير

الإِتهامات المتعددة الألوان:

هذه الآيات - في الحقيقة - تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. ثمّ في الإدعاءات الواهية لعبدة الأوثان، واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن، وشخص النّبي ص.

الآية الأُولى - في الواقع - تجر المشركين إلى المحاكمة، ولتحريك وجدانهم تقول بمنطق واضح وبسيط، وفي نفس الوقت قاطع وداحض: (واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون).

المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود، ولا يدعي المشركون هذا الإدعاء لأوثانهم، بل يعتقدون أنّها مخلوقة لله.

وبعدُ، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فما بالك بما تستطيعه للآخرين!؟ (ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً).

والاُصول المهمّة عند الإنسان هي هذه الأُمور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة، والنشور.

فمن يكن بحق مالكاً أصيلا لهذه الأُمور، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.

لكن هذه الأصنام غير قادرة أصلا على هذه الأُمور لنفسها، فكيف تريد أن توفّر هذه الاُمور لمن يعبدها من المشركين؟!

أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد الإنسان ويتذلل على أعتاب موجود لا اختيار له في نفسه، فما بالك باختياره للآخرين!؟

هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضاً.

هذا التعبير يدل على أنّ هذه الفئة من المشركين، المخاطبة في هذه الآيات، كانت تقبل بالمعاد نوعاً من القبول (المعاد الروحي لا الجسدي) ، أو أن القرآن - حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاد - يتناول القضية كمسلّمة، فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد، وهذا مألوف، فالإِنسان أحياناً يكون أمام شخص منكر للحقيقة، لكنّه يدلي بكلامه طبقاً لأفكاره هو، دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر. خاصّة وأنّ دليلا ضمنياً على المعاد قد كمن في نفس الآية، لأنّ خالقاً حينما يبتدع مخلوقاً - وهو مالك موته وحياته وضرّه ونفعه - لابدّ أن يكون له هدف من خلقه، ولايمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون الإِيمان بالنشور، ذلك لأنّه إذا انتهى بموت الإِنسان كل شيء، فسوف تكون الحياة فارغة بلا معنى، وهذا يدلّ على أن ذلك الخالق لم يكن حكيماً.

إذا تأملنا جيداً وجدنا مسألة "الضرر" جاءت في الآية قبل "النفع" وذلك لأن الإِنسان ينفر من الضرر بالدرجة الأُولى، ولهذا كانت جملة "دفع الضرر أولى من جلب المنفعة" أحد القوانين العقلائية.

وإذا كان "الضرر" و "النفع" و "الموت" و "الحياة" و "النشور" جاءت بصيغة النكرة، أيضاً، فلأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أن هذه الأوثان لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، حتى في مورد واحد، فما بالك بالموارد كلها!؟

وإذا ذكرت "لا يملكون" و "لا يخلقون" بصيغة "جمع المذكر العاقل" (في حال أنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور) فذلك لأنّ هذا الخطاب لا يتعلق بالأوثان الحجرية والخشبية فحسب، بل بالجماعة التي كانت تعبد الملائكة أو المسيح، ولأن العاقل وغير العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة، فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب "التغليب" كما في الإِصطلاح الأدبي.

أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقاً لإعتقاد المخاطبين به، حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم، يعني: إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأوثان ذات عقل وشعور، فلماذا لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرراً، أو أن تجلب منفعة!؟

الآية التالية - تتناول تحليلات الكفار - أو حججهم على الأصح - في مقابل دعوة النّبي(ص) ، فتقول: (وقال الذين كفروا إن هذا إلاّ إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون).

في الواقع، إنّهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسؤولية تحمل الحق - شأن كل الذين أصروا على معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ - اتهموا الرّسول (ص) أوّلا بالإِفتراء والكذب، خاصّة وأنّهم قد استخدموا لفظة "هذا" ليحقروا القرآن.

ثمّ من أجل أن يثبتوا أنّه غير قادر على الإِتيان بمثل هذا الكلام - لأنّ الإِتيان بمثل هذا الكلام المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة، وما كانوا يريدون التسليم بهذا - ومن أجل أن يقولوا أيضاً: إنّ هذا خطّة مدبرة ومحسوبة، قالوا: إنّه لم يكن وحده في هذا العمل، بل أعانه قوم آخرون، وهذه مؤامرة بالتأكيد، ويجب الوقوف بوجهها.

بعض المفسّرين قالوا: إنّ المقصود بـ (قوم آخرون) جماعة من اليهود.

وقال آخرون: إنّ المقصود بذلك ثلاثة نفر كانوا من أهل الكتاب، وهم: "عداس" و "يسار" و "حبر" أو "جبر".

على أية حال - بما أنّ هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مكّة، وإنّ قسماً منها مثل قصص الأنبياء الأولين كان عند اليهود وأهل الكتاب - فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه الآيات.

لكن القرآن يردُّ عليهم في جملة واحدة فقط، تلك هي: (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً).(1)

"الظلم" هنا لأنّ رجلا أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرّسول الأكرم(ص) اتّهموه بالكذب والإِفتراء على الله، وبالإِشتراك مع جماعة من أهل الكتاب. فظلموا أنفسهم والناس أيضاً.

و "الزور" هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقاً، لأنّ النّبي(ص) دعاهم عدّة مرات إلى الإِتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.

وهذا بالذات يدل على أن هذه الآيات ليست من صنع عقل البشر، لأنّ الأمر لو كان كذلك، لكانوا يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها. ومن هنا فإنّ عجزهم دليل على كذبهم، وكذبهم دليل على ظلمهم.

لهذا فالجملة، القصيرة (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية.

كلمة "زور" في الأصل من "زَور" (على وزن غور) أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثمّ أطلقت على كل شيء يتمايل عن حدّ الوسط، وبما أن "الكذب" انحرف عن الحق، ومال إلى الباطل، فقد، سمّوه "زوراً".

تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن، فتقول: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها).

لا شيء عنده من قبل نفسه، لا علم ولا ابتكار، فكيف له بالنّبوة والوحي! إنّه استعان بآخرين، فجمع عدّة من الأساطير القديمة، وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي. وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).

إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلُّ فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشياً.

هذا الكلام - في الحقيقة - تفسير وتوضيح للإِتهامات التي نقلت عنهم في الآية السابقة. إنّهم في هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف:

أوّلها: أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقاً، بل مجموعة من الأساطير القديمة.

والثّانية: أنَّ نبي الإِسلام لا يستطيع الإستمرار بدعوته - حتى يوماً واحداً - بدون مساعدة الآخرين، فلابدّ أن يُملوا الموضوعات عليه بكرة وعشياً، وعليه أن يكتبها.

والأُخرى: أنّه يعرف القراءة والكتابة. فإذا قال: إنّني اُمّي، فهي دعوى كاذبة.

إنّهم - في الواقع - كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن النّبي(ص) بواسطة هذه الأكاذيب والإتهامات، في الوقت الذي يعلم كل العقلاء الذين عاشوا مدّة في ذلك المجتمع، أنّ النّبي(ص) لم يكن قد درس عند أحد، مضافاً إلى أنّه لم تكن له أية رابطة مع جماعة اليهود وأهل الكتاب. وإذا كان يستلهم من الآخرين كل يوم بكرة وعشياً، فكيف أمكن أن يخفى على أحد؟ فضلا عن هذا، فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر، بين الناس ومنفرداً، وفي كل حال.

مضافاً إلى كل هذا، كان القرآن مجموعة من التعليمات الإِعتقادية، والأحكام العملية، والقوانين، ومجموعة من قصص الأنبياء، ولم تكن قصص الأنبياء لتشكل كل القرآن، مضافاً إلى أنّ ما ورد من قصص الأقوام الأولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين (التوراة والإِنجيل) المحرفين، وأساطير العرب الخرافية، لذلك لأنّ ما في العهدين مليء بالخرافات، والقرآن منزّه عنها، ولو وضعنا القرآن والعهدين جنباً إلى جنب، وقايسنا بينهما، فسوف تتجلى حقيقة الأمر جيداً.(2)

لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الإِتهامات الواهية، فتقول: (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب، والأسرار، المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأولين، والقوانين والإِحتياجات البشريه، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية،

تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك. بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض، والمحيط بكل شيء علماً.

لكن مع كل هذا، فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية (إنّه كان غفوراً رحيماً).

فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإِيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.


1- ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن الله تعالى، ودلائل ذلك في تفسير الآية (116) من سورة البقرة.

2- اُقتباس من كتاب "الإنسان لا يقوم وحده" تأليف كريسي موريسون، ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان (العلم يدعو للإيمان)، من الصفحات 65، 66، 70، 71، 159، 160.