الآيات 75 - 80
﴿وَلَوْ رَحِمْنَـهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ75 وَلَقَدْ أَخَذْنَـهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ76 حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَاب شَدِيد إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ77 وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَـرَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ78 وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ79 وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَـفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ80﴾
التّفسير
طرق التوعية الإلهيّة المختلفة:
عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرّع بها منكرو الحقّ في رفض الرسالات وإيذاء الأنبياء (عليهم السلام).
وتناولت هذه الآيات إتمام الحجّة عليهم من قبل الله تعالى وتوعيتهم.
فتقول أوّلا: إنّنا تارةً نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا،
ولكن: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ للجّوا في طغيانهم يعمهون).
والله تعالى يبتليهم لعلّهم يَعُون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه، لكنّ طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتّى بالبلاء المذلّ (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون)(1).
"التضرّع" - كما أسلفنا - مشتقّة من الضرع بمعنى الثدي، فالتضرّع يعني الحلب، ثمّ استعملت بمعنى التسليم المخالط بالتواضع والخضوع.
وتعني هذه الآية أنّ المشركين لم يتخلّوا عن غرورهم وعنادهم وتكبّرهم، ولم يستسلموا للحقّ حتّى وهم يواجهون أشدّ النكبات عصفاً بهم.
وإذا ما فسّر التضرّع في الرّوايات بأنّه رفع اليدين نحو السّماء للدعاء، فهو أحد مصاديق هذا المعنى الواسع.
فالله تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم (حتّى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون)(2).
الواقع، أنّ نوعين من العقاب الإلهي: أوّلهما "عقابالإبتلاء"، وثانيهما "عقاب الإستيصال" والإقتلاع من الجذور، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.
أمّا هدف العقاب الثّاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة، وتطهيرها من عراقيلهم، لأنّه لم يبق لهم حقّ الحياة في نظام الحقّ، ولهذا يستوجب إقتلاع هذه الأشواك من طريق تكامل البشر.
وبيّن المفسّرين إختلاف في قصد الآية من عبارة (باباً ذا عذاب شديد).
فالكثيرون يرون أنّه الموت، ثمّ العذاب وعقاب يوم القيامة.
وآخرون يرونه القحط الشديد الذي واجه المشركين سنين عديدة بدعاء من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصبحوا لا يجدون ما يأكلون، حتّى تناولوا ما تشمئز منه الأنفس.
وغيرهم يرونه العقاب الأليم الذي نزل على المشركين بضربات سيوف جند الإسلام في معركة بدر.
وهناك إحتمال أنّ الآية لا تختّص بفئة معيّنة، بل هي إستعراض لقانون شامل عامّ للعقوبات الإلهيّة، يبدأ من الرحمة، فالتنبيه والعقاب التربوي، وينتهي بعذاب الإقتلاع من الجذور والدمار(3).
ثمّ تناول القرآن المجيد القضيّة من باب آخر، فعدّد النعم الإلهيّة لدفع الناس إلى الشكر (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)والتأكيد على (الاُذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرّف الإنسان على المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاُذن، والقضايا غير الحسّية يدركها بالعقل.
ومعرفة أهميّة حاسّتي النظر والسمع يكفي لتصوّر حالة الإنسان الذي يفقدهما، إذ تظلم الدنيا بعينه.
وبفقدان هاتين الحاسّتين بالولادة تفقد حواسّ أُخرى عملها.
فالأصمّ بالولادة يكون بالبداهة أبكم، فإنطلاق اللسان مرتبط بسمع الإنسان وبفقدهما يفقد الإنسان وسيلة إرتباطه مع الآخرين.
وبعد هاتين الحاسّتين اللتين هما مفتاح الإدراك لعالم المادّة، يأتي العقل الذي ينتزع الأفكار ممّا تُموّنه به الحواسّ، ويجتاز الطبيعة إلى ما وراءها، ومهمّته النقد والإستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصّلة حاسّتي البصر والسمع وسواهما، أفلا يستحقّ الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذمّ واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه للعباد؟
وتقديم ذكر الاُذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوّغه.
ولكن لماذا تقدّم السمع على البصر؟ يحتمل - كما يقول العلماء - أنّ اُذن الوليد تعمل أوّلا، ثمّ عينه، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي إستعداد وقابلية على مشاهدة أمواج النور، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا، ثمّ تتعودّان النور تدريجيّاً.
وليست الاُذنان هكذا، حتّى أنّ بعضهم يرى أنّها قادرة على السماع حتّى في الرحم(4).
فهي تسمع صوت دقّات قلب الاُمّ.
إنّ بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكّل دافعاً لمعرفة واهب هذه النعم، وهو المنعم الوحيد حقّاً (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساساً لوجوب معرفة الله عقلا).
وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب، فتقول: (وهو الذي ذرأكم في الأرض)(5).
وبما أنّه - جلّ إسمه - خلقكم من الأرض، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية، ثمّ يبعثكم: (وإليه تحشرون).
ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم، وقادكم إلى الإيمان به وبالمعاد.
وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل أُخرى من بديع صنع الله تعالى (وهو الذي يحيي ويميت وله إختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون).
وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لإستيقاظ القلب وإنبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وإنتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسيّة والآفاقية، فالقول المبارك إستعرض مسيرة الإنسان منذ الولادة حتّى الموت والعودة إلى الله تعالى، التي تتمّ مراحلها جميعاً بإرادة الله العزيز الحكيم.
وممّا يلفت النظر جعل الله الموت والحياة إلى جانب إختلاف الليل والنهار، وذلك لكون النور والظلام في عالم الوجود كالموت والحياة للكائنات، فمثلما يجد الخلق حركته ونشاطه بين أفواج النور، ويستخفي بين أستار الظلام، كذلك تبدأ الأحياء حركتها ونشاطها في نور الحياة، وتستخفي في ظلمة الموت، ولكليهما صفة التدرّج.
وسبق أن قلنا بأنّ "إختلاف" الليل والنهار قد يعني تواليهما حيث يخلف الليل النهار، ويخلف النهار الليل.
وقد يعني إختلافهما وتفاوتهما التدريجي الذي يوجد الفصول الأربعة، ويقود دورة الحياة في عالم النبات في ظلّ نظام دقيق.
وكلّ هذه المسائل يمكن أن تكون السبيل إلى معرفة الله، إذا انتبه لها الإنسان وتأمّلها بفطنة.
ولهذا تقول الآية في النهاية: (أفلا تعقلون)؟!
1- نهج البلاغة، الخطبة 151.
2- "استكانوا" مشتقّة من السكون، بمعنى الصمت في حالة الخضوع والخشوع، وبهذه الصورة ستكون من باب "إفتعال" التي كانت في الأصل استكنوا. أشبعت فتحة الكاف وبدّلت إلى ألف. فأصبحت استكانوا. وقال البعض: إنّها مشتقّة من كون، ومن باب "إستفعال" أي طلب الإقامة في مكان بخضوع وخشوع. وعلى كلّ حال فإنّها تبيّن حالة العبد الخاضع لربّه، وقد اعتبرها البعض بمعنى الدعاء بسبب كونه أحد مصاديق الخضوع والتواضع. أمّا الإحتمال الثالث، فهي مشتقّة عن "الكين" على وزن "عين" ومن باب الإستفعال، لأنّها تعني الخضوع أيضاً. وجميع هذه المعاني متقاربة.
3- "المبلس" كلمة مشتقّة من "الإبلاس". بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة. وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.
4- الآية (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة) التي ذكرت قبل هذه الآيات تؤيّد هذا التّفسير.
5- تحدّثنا عن أجهزة التعرّف الثلاثة في تفسير الآية (78) من سورة النحل.