الآيات 26 - 30
﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ26 فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَـطِبْنِي فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ27 فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّـنَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ 28 وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ29 إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَـت وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ30﴾
التّفسير
خاتمة حياة قوم معاندين:
اطّلعنا من الآيات السابقة على التهم التي وجّهها أعداء نوح (ع) إليه.
إلاّ أنّه يستدلّ من آيات قرآنية أُخرى - بشكل واضح - أن أذى القوم المعاندين لنوح (ع)لم يتحدّد بهذه الاُمور، بل شمل كلّ وسيلة يمكن بها إيذاؤه، في حين بذل - سلام الله عليه - جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر.
وعندما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلاّ مجموعة صغيرة، دعا الله ليعينه، حيث نقرأ في الآية الأُولى (قال ربّ انصرني بما كذّبون)(1).
هنا نزل الوحي الإلهي، من أجل التمهيد لإنقاذ نوح (ع) وأصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).
إنّ عبارة "بأعيننا" إشارة إلى أنّ سعيك في هذا السبيل سيكون تحت حمايتنا، فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أي شيء.
وإستعمال عبارة "وحينا" يكشف لنا أنّ نوحاً (ع) تعلّم صنع السفينة بالوحي الإلهي، لأنّ التأريخ لم يذكر أنّ الإنسان إستطاع صنع مثل هذه الوسيلة حتّى ذلك الوقت.
ولهذا السبب صنع نوح (ع) السفينة بشكل يناسب غايته في صنعها، ولتكون في غاية الكمال!
ثمّ تواصل الآية بأنّه إذا جاء أمر الله، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور، فاعلم أنّه قد اقترب وقت الطوفان، فاختر من كلّ نوع من الحيوانات زوجاً (ذكر واُنثى) واصعد به إلى السفينة: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كلّ زوجين إثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول منهم) إشارة إلى زوج نوح (ع) وأحد أبنائه، ثمّ أضافت الآية:
(ولا تخاطبني في الذين ظلموا انّهم مغرقون) وهذا التحذير جاء حتّى لا يقع نوح (ع) تحت تأثير العاطفة الإنسانية، عاطفة الاُبوّة، أو عاطفته نحو زوجته ليشفع لهما، في وقت إفتقدا فيه لحقّ الشفاعة.
وتقول الآية التالية: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين).
وبعد الحمد والثناء عليه تعالى على هذه النعمة العظيمة، نعمة النجاة من مخالب الظلمة، ادعوه هكذا (وقل ربّ أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين).
كلمة "منزل" ربّما كانت اسم مكان، أي: بعد الطوفان ندعو الله لينزلنا في أرض ذات خيرات واسعة، لنحيا فيها بسعادة وهدوء.
كما يمكن أن تكون مصدراً ميميّاً أي: أنزلنا بشكل لائق، لأنّ هناك أخطاراً تهدّد ركّاب هذه السفينة بعد رسوها في ختام الطوفان، كعدم مكان للسكن، أو النقص في الغذاء، أو التعرّض للأمراض، لهذا دعا نوح (ع) ربّه لينزله منزلا مباركاً.
وقد أشارت الآية الأخيرة - من الآيات موضع البحث - إلى مجمل هذه القصّة فقالت: (إنّ في ذلك لآيات) ففي هذه الحوادث التي جرت على نوح (ع)وإنتصاره على أعدائه الظالمين، ونزول أشدّ أنواع العقاب عليهم - آيات ودلائل لأصحاب العقول السليمة.
(وإن كنّا لمبتلين) أي إنّنا نمتحن الجميع بشكل قاطع.
وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى إمتحان الله لقوم نوح مراراً، وعندما أخفقوا في الامتحان أهلكهم إلاّ المؤمنين.
كما قد تكون إشارة إلى امتحان الله لجميع البشر في كلّ زمان ومكان، وما جاء في هذه الآيات لم يكن خاصّاً بالناس في زمن نوح (ع)، بل يشمل الناس في جميع الدهور.
فيهلك من كان عائقاً في طريق تكامل البشرية وليواصل الأخيار سيرهم الطبيعي.
واكتفت الآيات هنا بقضيّة بناء السفينة ودخول نوح (ع) وأصحابه إليها، إلاّ أنّها لم تُشر إلى مصير المذنبين، ولم تتحدّث عنهم بالتفصيل، وإنّما إكتفت بالقول بأنّهم لقوا ما وعدهم الله (إنّهم مغرقون) لأنّ هذا الوعد مؤكّد لا يقبل النقض.
ولابدّ من القول بأنّ هناك حديثاً واسعاً عن قوم نوح وموقفهم إزاء هذا النّبي الكبير، ومصيرهم المؤلم، وقصّة السفينة، وفوران الماء من التنور، وحدوث الطوفان، وغرق ابن نوح (ع).
وقد بيّنا قسماً كبيراً منه في تفسير سورة هود، وسنذكر قسماً آخر في تفسير سورة نوح إن شاء الله.
1- كما قال البعض: إنّ هذه العبارة تشير إلى قولهم: ارموه في السجن زمناً وقال آخرون: إنّهم قصدوا أن يتركوه لحاله الآن. إلاّ أنّ هذين التّفسيرين لا يبدوان صحيحين.