الآيات 39 - 41

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ39 الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صَوَمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَتٌ وَمَسَـجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ40 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَـقِبَةُ الاُْمُورِ41﴾

التّفسير

أوّل حكم بالجهاد:

ذكرت روايات أنّ المسلمين عندما كانوا في مكّة، كانوا يتعرّضون كثيراً لأذى المشركين، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب يشكون إليه ما يُعانون من قهر وأذىً، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم: "اصبروا فانّي لم اُؤمر بالقتال" حتّى هاجر، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة، وهي أوّل آية نزلت في القتال(1).

هناك إختلاف بين المفسّرين في كونها أوّل آية نزلت بالجهاد، فهناك مَن يؤيّد ذلك، وهناك من يرى أنّ أوّل آية نزلت في الجهاد هي آية (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ..)(2) وعدّ البعض آية (إنّ الله إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ..)(3) هي الأُولى(4).

إلاّ أنّ اُسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأنّ تعبير "إذن" جاء بصراحة واضحة فيها، ولم يرد في الآيتين الاُخريين، وبتعبير آخر: إنّ الإذن بالجهاد منحصر في هذه الآية.

ولمّا وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيداً الإرتباط بين هذه الآيات .. تقول الآية: إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنّهم ظلموا: (أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا) ثمّ أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين (وإنّ الله على نصرهم لقدير).

إنّ وعد الله بالنصر جاء مقروناً ب- "قدرة الله".

وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهيّة التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم، أو بتعبير آخر: عليكم بالجدّ والعمل بكلّ ما تستطيعون من قدرة، وعندما تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع حروبه التي كانت تتكلّل بالنصر.

ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين - الذين أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم - بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: (الذين اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ) وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون: (إلاّ أن يقولوا ربّنا الله).

ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنباً يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة، وتعبير الآية جاء لطيفاً - يُجلّي إدانة الخصم، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل: لقد أذنبنا عندما خدمناك، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّاً(5).

ثمّ تستعرض الآية واحداً من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً).

أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً.

ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة الله، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق، فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّىء طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر.

وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّهاً منهم بالله تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.

وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة ل- "الصوامع" و "البيع" و "الصلوات" و "المساجد" والفرق بينها، وما يبدو صحيحاً منها هو أنّ:

"الصوامع" جمع "صومعة" وهي عادةً مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزهّاد والعبّاد.

(ويجب ملاحظة أنّ "الصومعة" في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.

و "البِيع" جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضاً.

و "الصلوات" جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة "صلوتا" العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.

وأمّا "المساجد" فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين.

والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى، إلاّ أنّ إحداهما معبد عامّ والاُخرى لمن ترك الدنيا، ويرى البعض أنّ "البيع" لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.

وعبارة (يذكر فيها اسم الله كثيراً) وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر، لأنّها أكثر إزدحاماً من جميع مراكز العبادة الاُخرى في العالم، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها، في وقت نجد فيه المعابد الاُخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلاّ في يوم واحد من الاسبوع، أو أيّام معدودات في السنة.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر (ولينصرنّ الله من ينصره)ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد، لأنّه من ربّ العزّة القائل: (إنّ الله لقوي عزيز).

من أجل ألاّ يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم وحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

وبنور من هذا الوعد الإلهي إنتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في معارك ضارية خاضوها بضآلة عدد وعدّة، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلاّ بإمداد إلهي.

وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة، وتقول: (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد إنتصارها، ولا يأخذها الكبر والغرور، إنّما ترى النصر سلّماً لإرتقاء الفرد والجماعة.

إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لإرتباطها القويّ بالله، والصلاة رمز هذا الإرتباط بالخالق، والزكاة رمز للإلتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم.

وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور(6).

كلمة "مكّنا" مشتقة من "التمكين" الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدّات الخاصّة بالعمل، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية وذهنية.

وتطلق كلمة "المعروف" على الأعمال الجيدة والحقّة، و "المنكر" يعني العمل القبيح، لأنّ الكلمة الأُولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة، والكلمة الثّانية على الأعمال المجهولة والمنكرة.

أو بتعبير آخر: الأُولى تعني الإنسجام مع الفطرة الإنسانية، والثّانية تعني عدم الإنسجام.

وتقول الآية في ختامها (ولله عاقبة الاُمور) وتعني أنّ بداية أي قدرة ونصر من الله تعالى، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).

بحوث

1 - فلسفة تشريع الجهاد

رغم أنّنا بحثنا مسألة الجهاد بحثاً واسعاً(7) قبل هذا، إلاّ أنّه مع ملاحظة إحتمال أن تكون الآيات - موضع البحث - أُولى الآيات التي أجازت للمسلمين الجهاد، وإحتوت إشارة إلى فلسفة هذا الحكم، وجدنا ضرورة تناولها بإيجاز.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد:

أوّلهما: جهاد المظلوم للظالم، وهو من حقوقه المؤكّدة والطبيعيّة، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته.

وليس له أن يستسلم للظلم، بل عليه أن ينهض ويصرخ ويتسلّح ليقطع دابر الظالم ويدفعه.

وثانيهما: جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس، فيجب مناهضة هؤلاء لمنعهم من محو ذكر الله بتخديرهم، ثمّ جعلهم عبيداً لها.

وممّا يلفت النظر أنّ تخريب المعابد والمساجد لا يعني تخريبها مادّياً فقط، بل قد يكون بأساليب غير مباشرة كثيرة، كإشاعة برامج التسلية والترفيه المقصودة، وبثّ الدعايات المسمومة، والإعلام المضادّ لحرف الناس عن المساجد، فتحوّل أماكن العبادة إلى خرائب مهجورة.

وفي هذا جواب لمن يسأل: لماذا اُجيز للمسلمين إستخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟ ولماذا لا يتمّ تحقيق الأهداف الإسلامية باللجوء إلى التعقّل والمنطق؟

وهل يفيد المنطق ذلك الظالم الذي يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنب إقترفوه سوى إعتقادهم بتوحيد الله.

فتراه يستولي على منازلهم وأموالهم، ولا يلتزم بأي قانون ومنطق تجاههم؟!

فهل يمكن ردع هؤلاء المجانين بغير لغة السلاح والقوّة؟!

وهذا ينطبق على من يقول لنا: لماذا لا تساومون الكيان الصهيوني وتفاوضونه؟

الكيان الصهيوني الذي إنتهك جميع القوانين الدولية وقرارات المنظمات الدولية التي أقرّتها شعوب العالم، وسحق ويسحق جميع القوانين البشرية والتعاليم السماوية، هل يعترف بالمنطق؟!

الكيان الصهيوني الذي قصف المدارس والمستشفيات بالقنابل المحرقة، فقتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين الأبرياء وجعلهم إرباً إرباً! كيف يخاطب بالمنطق؟

وهكذا الأمر بالنسبة للذين يرون في المعبد والمسجد الذي يبثّ الوعي بين الناس ويقود حركة الجماهير، منافساً لمصالحه غير المشروعة؟! ويعملون بما لديهم من قوّة لهدمه! فهل يمكن التفاوض سلميّاً معهم؟! وإذا نظرنا إلى المجتمع الإنساني نظرة واقعية ووضعنا القضايا الفكرية جانباً، فلا نجد مفرّاً من اللجوء إلى القوّة والسلاح؟!

وليس هذا عجزاً في منطقنا، بل لعدم إستعداد الجبابرة لقبول المنطق السليم، ومتى وجدنا المنطق فاعلا لجأنا إليه.

2 - من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟

إنّه لمن الخطأ الإعتقاد بأنّ نصر الله المؤمنين ووعدهم بالدفاع عنهم - الذي جاء في الآيات السابقة ومن آيات قرآنية أُخرى - بعيد عن سنّة الله في خلقه وقوانين الحياة!

ليس الأمر هكذا، فالله يعدّ بنصرة الذين يعبئون جميع طاقاتهم ليدخلوا ميدان القتال بكلّ قوّة، ولهذا نطالع في الآيات السالفة: (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض).

فلا يدفع الله الظالمين بإمداداته الغيبيّة وبقدرة الصواعق والزلازل التي يبعثها إلاّ في حالات إستثنائية، إنّما يدفع شرّهم عن المؤمنين بمن يدافع عنهم، أي المؤمنين الحقيقيين.

وعليه فلا يعني الوعد الإلهي بالنصر رفع المسؤولية والتكاسل والتواكل بالإعتماد على ما وعد الله للمؤمنين، بل يجب التحرّك الواسع لضمان النصر الإلهي وتهيئة مستلزماته.

والجدير بالذكر أنّ هذه المجموعة من المؤمنين لا يتوجّهون إلى الله قبل النصر فقط، بل بعد النصر أيضاً، فهم (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة ...) يوطّدون علاقتهم مع الله.

والنصر لديهم وسيلة لنشر الحقّ والعدل ومكارم الأخلاق.

وخصّصت بعض الرّوايات الآية السابقة بالمهدي (عجّل الله فرجه) وأصحابه أو بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عامّ، فقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (ع) حين تفسير الآية (الذين إن مكّناهم في الأرض ...) قال: إنّ هذه الآية (الذين إن ...)نزلت في آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهدي (عج) وأصحابه "يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات الشقاة الحقّ، حتّى لا يرى أين الظلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"(8).

وقد وردت أحاديث أُخرى في هذا المجال، وهي عبارة عن مصاديق بارزة للآية ولا تمنع عموم الآية، لا يمكنها منع، فمفهوم الآية الواسع يشمل جميع المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.

3 - "المحسنين"، "المخبتين"، "أنصار الله"

وتأمر الآيات المذكورة أعلاه والتي قبلها أحياناً بتبشير "المحسنين"، ثمّ تعرفّهم أنّهم من المؤمنين، وليسوا من الخونة الكفّار .. وأحياناً أُخرى تتكلّم حول "المخبتين" (المتواضعين) وتصفهم بأنّهم خشّع في الصلاة، صابرون على المصائب منفقون ممّا وهبهم الله.

وتعدّد هذه الآيات كذلك ميزات "أنصار الله" الذين لا يطغون عند إنتصارهم، بل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وخلاصة هذه الآيات تكشف لنا أنّ المؤمنين الصادقين لهم جميع هذه الخصائص، فهم من جهة أقوياء في عقيدتهم والتزامهم المسؤولية، ومن جهة ثانية برهنوا على أنّهم أقوياء ومستقيمون في علاقتهم مع الخالق والخلق وفي مكافحة الفساد.


1- كنز العرفان، المجلّد الأوّل، صفحة 314.

2- تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.

3- البقرة، 190.

4- التوبة، 111.

5- الميزان، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 419.

6- وبهذا يتّضح أنّ الإستثناء في الآية المذكورة متّصل غاية الأمر إنّه كنائي مع ذكر فرد ادّعائي. (فتأمّل).

7- تناولنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين، والجواب عن إستفسارات في هذا المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.

8- تناولنا فلسفة الجهاد بالبحث في تفسير الآية 193 من سورة البقرة.