الآيات 19 - 24

﴿هَـذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّار يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ19 يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ 20 وَلَهُم مَّقَـمِعُ مِنْ حَدِيد21 كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ22 إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسَهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ23 وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَطِ الْحَمِيدِ24﴾

سبب النّزول

ذكر عدد من المفسّرين من الشيعة والسنّة روايات في سبب نزول أوّل آية من الآيات السالفة الذكر نلخّصها بتركيز: "نزل إلى ساحة الحرب يوم معركة بدر ثلاثة من المسلمين هم (علي (ع) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطّلب)، فقتلوا بحسب ترتيبهم "الوليد بن عتبة" و "عتبة بن ربيعة" و "شيبة بن ربيعة"

فنزلت هذه الآية لتبيّن مصير الذين اشتركوا في هذه المبارزة.

كما روي أنّ أبا ذر أقسم بأنّ هذه الآية نزلت بحقّ هؤلاء الرجال(1)، إلاّ أنّنا نكرّر قولنا ثانيةً بأنّ سبب النّزول الخاصّ بشخص أو جماعة معيّنة لا يمنع أن يكون مضمون الآية عامّاً يشمل الجميع.

التّفسير

خصمان متقابلان!

أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفّار، وحدّدتهم بستّ فئات.

أمّا هنا فتقول: (هذان خصمان اختصموا في ربّهم)(2) أي أنّ الخصام بين مجموعتين، هما: طوائف الكفّار الخمس من جهة، والمؤمنون الحقيقيّون من جهة أُخرى.

وإذا تفحّصنا الأمر وجدنا أساس الخلاف بين الأديان في ذات الله تعالى وصفاته، وهو يمتدّ إلى الخلاف في النبوّة والمعاد.

لهذا لا ضرورة إلى القول بأنّ الناس مختلفين في دين الله.

إذ أنّ أساس الخلاف وجذوره يعود إلى الخلاف في توحيده تعالى فقط.

فجميع الأديان قد حرّفت، والباطل منها قد إختلط بنوع من الشرك، وبدت دلائله في جميع إعتقادات أصحاب هذه الأديان.

ثمّ تبيّن الآية أربعة أنواع من عقاب الكافرين المنكرين لله تعالى بوعي منهم، والعقاب الأوّل حول لباسهم، فتقول الآية: (فالذين كفروا قطّعت لهم ثياب من نار)ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي اُعدّ لهم من قطع من نار، أو كناية عن إحاطة نار جهنّم بهم من كلّ جانب.

ثمّ (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم)(3) أي يصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حميم النّار، وهذا الماء الحارق الفوّار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب باطنها وظاهرها (يصهر ما في بطونهم والجلود)(4).

وثالث نوع من العقاب هو (ولهم مقامع من حديد)(5) أي اُعدّت لهم أسواط من الحديد المحرق.

والرابع: (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) أي كلّما أرادوا الخروج من جهنّم والخلاص من آلامها وهمومها اُعيدوا إليها، وقيل لهم ذوقواعذاب الحريق.

وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة اُسلوب المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار).

فخلافاً للمجموعة الأُولى الذين يتقلّبون في نار جهنّم، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنّة على ضفاف الأنهر وهذه هي المكافأة الأُولى، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية: و (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير)(6).

وهاتان مكافئتان يمنّ الله بهما كذلك على عباده العالمين في الجنّة، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويجملّهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الأُولى، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سبباً لحرمان الآخرين وفقرهم.

أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس الحرير والحلي وغيرها.

وبالطبع ستكون للحياة الاُخروية مفاهيم أسمى ممّا نفكّر به في هذه الدنيا الدنيّة، لأنّ مبادىء الحياة ومدلولها يختلفان في الدنيا عمّا هي في الآخرة (فتأمّلوا جيداً).

وأخيراً الهبة الرّابعة والخامسة التي يهبها الله للمؤمنين الصالحين ذات سمة روحانية (وهدوا إلى الطيب من القول) حديث ينمي الروح.

وألفاظ تثير حيوية الإنسان، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ القلب بهجةً وسروراً، (وهدوا إلى صراط الحميد)(7) هكذا يهدون إلى طريق الله الحميد، الجدير بالثناء، طريق معرفة الله والتقرّب المعنوي والروحي إليه، سبيل العشق والعرفان.

حقّاً إنّ الله يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات اللذّة الروحيّة.

ونقرأ في حديث رواه علي بن إبراهيم (المفسّر المعروف) في تفسيره، أنّ القصد من "الطيب من القول" التوحيد والإخلاص ويعني "الصراط الحميد" الولاية والإقرار بولاية القادة الربانيّين (وبالطبع هذا أحد البراهين الواضحة للآية).

كما يستنتج من التعابير المختلفة الواردة في الآيات السابقة وفي سبب نزولها أنّ هناك عذاباً عسيراً صعباً ينتظر مجموعة خاصّة من الكفّار الذين يعاندون الله ويحاولون تضليل الآخرين.

إنّهم أفراد من قادة الكفر كالذين تقدّموا في معركة بدر لمبارزة علي (ع) وحمزة بن عبدالمطّلب وعبيدة بن الحارث.


1- التحريم، 6.

2- ذكر ذلك الطبرسي في "مجمع البيان" والفخر الرازي في "التّفسير الكبير" والألوسي في "روح المعاني" والسيوطي في "أسباب النّزول" والقرطبي في تفسيره.

3- كلمة "خصمان" مثنّى أمّا فعلها "اختصموا" فجاء بصيغة جمع، والسبب يكمن في أنّ هذين ليسا شخصين، بل فئتين، إضافة إلى كون الفئتين ليس في صفّين وإنّما في صفوف مختلفة، وتنهض كلّ مجموعة لمبارزة الآخرين.

4- الحميم: الماء الحارق.

5- "يصهر" مشتقّة من "صهر" على وزن "قهر" وتعني تذويب الشحم. أمّا "الصِهر" على وزن "فكر" فتعني النسيب.

6- "المقامع" جمع "مقمع" على وزن "منبر" وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقاباً له.

7- "أساور" جمع "أسورة" على وزن "مشورة" وهي بدورها جمع لكلمة "سوار" على وزن "كتاب" وتعني المعضد.