الآيات 68 - 70
﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـعِلِينَ68 قُلْنَا يَـنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـماً عَلَى إِبْرَهِيمَ69 وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـهُمُ الاَْخْسَرِينَ70﴾
التّفسير
عندما تصير النّار جنّة:
مع أنّ عبدة الأوثان اُسقط ما في أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العمليّة والمنطقيّة، وإعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلاّ أنّ عنادهم وتعصّبهم الشديد منعهم من قبول الحقّ، ولذلك فلا عجب من أن يتّخذوا قراراً صارماً وخطيراً في شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة، أي حرقه وجعله رماداً!
هناك علاقة عكسية بين القوّة والمنطق عادةً، فكلّ من إشتدّت قوّته ضعف منطقه، إلاّ رجال الحقّ فإنّهم كلّما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعاً ومنطقاً.
وعندما لا يحقّق المتعصّبون شيئاً عن طريق المنطق، فسوف يتوسّلون بالقوّة فوراً، وقد طبّقت هذه الخطّة في حقّ إبراهيم تماماً كما يقول القرآن الكريم: (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين).
إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم - عادةً - لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر، وقد سُحقت سنّة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميّتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاّء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم - إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل - ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوّة وقدرة.
اُنظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم؟!
والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه لخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلا من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خِطّته وأسقطت اُبّهتها!!
لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة، لا يبدو أي منها بعيداً، ومن جملتها قولهم: إنّ الناس سعوا أربعين يوماً لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان، وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللاتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلاًّ من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقداراً من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب إشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها.
من البديهي أنّ ناراً بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الإستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة(1).
ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النّار، ضجّت السّماء والأرض والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحّد البطل وزعيم الرجال الأحرار.
ونقلوا أيضاً أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة: "أمّا إليك فلا" إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع، ورؤوف بالجميع.
وهنا إقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربّك، فأجابه: "حسبي مِن سؤالي علمه بحالي"(2).
وفي حديث عن الإمام الباقر (ع): إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة: "ياأحد ياأحد، ياصمد ياصمد، يامن لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، توكّلت على الله"(3).
كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الاُخرى.
وعلى كلّ حال، فقد اُلقي إبراهيم في النّار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً.
لكنّ الله الذي بيده كلّ شيء حتّى النّار لا تحرق إلاّ بإذنه، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالماً من لهب تلك النّار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل إفتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: (قلنا يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم).
لا شكّ أنّ أمر الله هنا كان أمراً تكوينيّاً، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر، والأرض والسّماء، والماء والنّار، والنباتات والطيور.
والمعروف أنّ النّار قد بردت برداً شديداً إصطّكت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض المفسّرين: إنّ الله سبحانه لو لم يقل: سلاماً، لمات إبراهيم من شدّة البرد.
وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أنّ نار النمرود قد تحوّلت إلى حديقة غناء(4).
حتّى قال بعض المفسّرين إنّ تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النّار، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيّام عمره(5).
على كلّ حال، فهناك إختلاف كبير بين المفسّرين في كيفية عدم إحراق النّار لإبراهيم، إلاّ أنّ مجمل الكلام أنّه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبّب عن أي سبب إلاّ بأمر الله، فيقول يوماً للسكّين التي في يد إبراهيم: لا تقطعي، ويقول يوماً آخر للنار: لا تحرقي، ويوماً آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة!
ويقول الله سبحانه في آخر آية من الآيات محلّ البحث على سبيل الإستنتاج بإقتضاب: أنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين).
لا يخفى أنّ الوضع قد إختلف تماماً ببقاء إبراهيم سالماً، وخمدت أصوات الفرح، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب، وكان جماعة يتهامسون علناً فيما بينهم حول هذه الظاهرة العجيبة، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربّه، وأحدق الخطر بوجود نمرود وحكومته، غير أنّ العناد ظلّ مانعاً من قبول الحقّ، وإن كان أصحاب القلوب الواعية قد إستفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.
بحوث
1 - السعي للخير والشرّ
قد يغرق الإنسان أحياناً في عالم الأسباب حتّى يخيّل إليه أنّ الآثار والخواص من نفس هذه الموجودات، ويغفل عن المبدأ العظيم الذي وهب هذه الآثار المختلفة لهذه الموجودات، ومن أجل أن يوقظ الله العباد يشير إلى أنّ بعض الموجودات التافهة قد تصبح مصدراً للآثار العظيمة، فيأمر العنكبوت أن تنسج عدّة خيوط رقيقة ضعيفة على باب غار ثور، وتجعل الذين كانوا يطاردون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبحثون عنه في كلّ مكان يائسين من العثور عليه، ولو ظفروابه لقتلوه، ولتغيّر مجرى التأريخ بهذا الأمر الهيّن .. وعلى العكس من ذلك، فإنّه يعطّل الأسباب التي يضرب بها المثل في عالم المادّة - كالنّار في الإحراق، والسكّين في القطع - عن العمل، ليُعلم أنّ هذه أيضاً ليس لها أمر وقدرة ذاتية في العمل، فإنّها تقف عن العمل إذا نهاها ربّها الجليل فتكفّ حتّى لو أمرها إبراهيم الخليل(ع).
إنّ الإلتفات إلى هذه الحقائق التي رأينا أمثلةً كثيرة لها في الحياة، تحيي في العبد المؤمن روح التوحيد والتوكّل حتّى أنّه لا يفكّر إلاّ في الله، ولا يطلب العون إلاّ منه، فيطلب منه - وحده - إطفاء نار المشاكل والمعضلات، ويسأله أن يدفع كيد الأعداء، فلا يرى غيره، ولا يرجو شيئاً من غيره.
2 - الفتى الشّجاع
جاء في بعض كتب التّفسير أنّ إبراهيم لمّا اُلقي في النّار لم يكن عمره يتجاوز ست عشرة سنة(6) وذكر البعض الآخر أنّ عمره عند ذاك كان (26) سنة(7).
وعلى كلّ حال فإنّه كان في عمر الشباب، ومع أنّه لم يكن معه أحد يعينه، فإنّه رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حامياً للطواغيت الآخرين، وهبّ بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك، واستهزأ بكلّ مقدّسات المجتمع الخيالية الواهية، ولم يدع للخوف من غضب وإنتقام الناس أدنى سبيل إلى نفسه، لأنّ قلبه كان مغموراً بعشق الله، وكان إعتماده وتوكّله على الذات المقدّسة فحسب.
أجل .. هكذا هو الإيمان، أينما وجد وجدت الشهامة، وكلّ من حلّ فيه فلا يمكن أن يُقهر!
إنّ أهمّ الاُسس التي ينبغي للمسلمين الإهتمام بها لمقارعة القوى الشيطانية الكبرى في دنيا اليوم المضطربة، هو هذا الأساس والرأسمال العظيم، وهو الإيمان، ففي حديث عن الإمام الصادق (ع): "إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد، إنّ زبر الحديد إذا دخل النّار تغيّر، وإنّ المؤمن لو قتل ثمّ نشر ثمّ قتل لم يتغيّر قلبه"(8).
3 - إبراهيم ونمرود
جاء في التواريخ أنّه عندما ألقوا إبراهيم في النّار، كان نمرود على يقين من أنّ إبراهيم قد أصبح رماداً، أمّا عندما دقّق النظر ووجده حيّاً، قال لمن حوله: إنّي أرى إبراهيم حيّاً، لعلّي يخيّل إليّ! فصعد على مرتفع ورأى حاله جيداً فصاح نمرود: ياإبراهيم إنّ ربّك عظيم، وقد أوجد بقدرته حائلا بينك وبين النّار! ولذلك فإنّي اُريد أن اُقدّم قرباناً له، وأحضر أربعة آلاف قربان لذلك، فأعاد إبراهيم القول عليه بأنّ أي قربان - وأي عمل - لا يتقبّل منك إلاّ أن تؤمن أوّلا.
غير أنّ نمرود قال في الجواب: فسيذهب سلطاني وملكي سُدىً إذن، وليس بإمكاني أن أتحمّل ذلك!
على كلّ حال، فإنّ هذه الحوادث صارت سبباً لإيمان جماعة من ذوي القلوب الواعية بربّ إبراهيم(ع)، أو يزدادوا إيماناً، وربّما كان هذا هو السبب في عدم إظهار نمرود ردّ فعل قوي ضدّ إبراهيم، بل إكتفى بإبعاده عن أرض بابل(9).
1- بحثنا في معنى (اُف) بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (23) من سورة الإسراء.
2- مجمع البيان، وتفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير القرطبي، في ذيل الآيات مورد البحث. وكذلك الكامل لابن الأثير المجلّد الأوّل ص98.
3- روضة الكافي، طبقاً لنقل الميزان، ج14، ص336.
4- تفسير الفخر الرّازي ذيل الآية.
5- تفسير مجمع البيان، ذيل الآية.
6- تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية.
7- مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.
8- تفسير القرطبي، المجلّد6، ص4344.
9- سفينة البحار، مادّة أمن، ج1، ص37.