الآيات 83 - 91
﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَـمُوسَى83 قَالَ هُمْ أُوْلاَءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى84 قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ85 فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَـنَ أَسِفاً قَالَ يَـقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى86 قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَـهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ87 فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَـهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ88 أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً89 وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـرُونُ مِن قَبْلُ يَـقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى90 قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى91﴾
التّفسير
صخب السامري:
ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسى (ع) وبني إسرائيل، ويتعلّق بذهاب موسى (ع) مع وكلاء وممثّلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك، ثمّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.
كان من المقرّر أن يذهب موسى (ع) إلى "الطور" لتلقّي أحكام التوراة، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل لتتّضح لهم خلال هذه الرحلة حقائق جديدة حول معرفة الله والوحي.
غير أنّ شوق موسى (ع) إلى المناجاة مع الله وسماع ترتيل الوحي كان قد بلغ حدّاً بحيث نسي في هذا الطريق - حسب الرّوايات - كلّ شيء حتّى الأكل والشرب والإستراحة، فطوى هذا الطريق بسرعة، ووصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات الله وميعاده.
هنا نزل عليه الوحي: (وما أعجلك عن قومك ياموسى)؟
فأجاب موسى على الفور: (قال هم أولاء على أثري وعجّلت إليك ربّ لترضى) فليس شوق المناجاة وسماع كلامك لوحده قد سلب قراري، بل كنت مشتاقاً إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لاُؤدّيها إلى عبادك، ولأنال رضاك عنّي بذلك .
.
أجل إنّي عاشق لرضاك، ومشتاق لسماع أمرك.
وفي هذا اللقاء إمتدّت مدّة الإشراقات والتجليّات المعنوية الإلهيّة من ثلاثين ليلة إلى أربعين، وأدّت الأجواء المهيأة لإنحراف بني إسرائيل دورها، فالسامري، ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع بإستعماله الوسائل التي سنشير إليها فيما بعد عجلا، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته، وأوقعهم فيها.
لا شكّ في أنّ الأرضيات، كمشاهدة عبادة المصريين للعجل، أو مشاهدة مشهد عبادة الأصنام - العجل بعد عبور نهر النيل، وطلب صنع صنم كهؤلاء، وكذلك تمديد مدّة ميعاد موسى، وإنتشار شائعة موته من قبل المنافقين، وأخيراً جهل هذه الاُمّة، كلّ ذلك كان له أثر في ظهور هذه الحادثة والإنحراف الكبير عن التوحيد، لأنّ الحوادث الإجتماعية لا تقع عادةً بدون مقدّمات، غاية ما هناك أنّ هذه المقدّمات تكون تارةً واضحة وعلنية، وأُخرى مستورة وخفيّة.
على كلّ حال، فإنّ الشرك في أسوأ صورة قد أحاط ببني إسرائيل، وأخذ بأطرافهم، خاصةً وأنّ كبار القوم كانوا مع موسى في الجبل، وكان زعيم الاُمّة هارون وحيداً دون أن يكون له مساعدون أكفّاء مؤثّرون.
وأخيراً أخبر الله موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي الآية التالية ذلك فتقول: (قال فإنّا قد فتنّا قومك وأضلّهم السامري).
غضب موسى عند سماعه هذه الكلمات غضباً التهب معه كلّ وجوده، وربّما كان يقول لنفسه: لقد تحمّلت المصائب والمصاعب خلال هذه السنين الطويلة، وأرهقت نفسي وواجهت كلّ الأخطار في سبيل أن تركن هذه الاُمّة إلى التوحيد، فكيف ذهبت جهودي أدراج الرياح بمجرّد أن غبت عنها عدّة أيّام (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً).
وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح، منظر عبادة العجل (قال ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً).
وهذا الوعد الحسن إمّا أن يكون وعد بني إسرائيل بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها، أو الوعد بالنجاة والإنتصار على الفراعنة ووراثة حكومة الأرض، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون ويؤمنون ويعملون الصالحات، أو أنّه كلّ هذه الاُمور.
ثمّ أضاف: (أفطال عليكم العهد) وهو يشير إلى أنّه: هبوا أنّ مدّة رجوعي قد طالت من ثلاثين إلى أربعين يوماً، فإنّ هذا الزمن ليس طويلا، ألا يجب عليكم أن تحفظوا أنفسكم في هذه المدّة القصيرة؟ وحتّى لو نأيت عنكم سنين طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهيّة التي تعلمّتموها وتؤمنوا بالمعجزات التي رأيتموها: (أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربّكم فأخلفتم موعدي)(1) فقد عاهدتكم على أن تثبتوا على خطّ التوحيد وطريق طاعة الله الخالصة، وأن لا تنحرفوا عنه قيد أنملة، إلاّ أنّكم نسيتم كلّ كلامي في غيابي، وكذلك تمردّتم على طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.
فلمّا رأى بنو إسرائيل أنّ موسى (ع) قد عنفّهم بشدّة ولامهم على فعلهم وتنبّهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل، هبوا للإعتذار فـ(قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا)(2) فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصمّمنا على عبادة العجل (ولكنّا حمّلنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري).
وللمفسّرين آراء فيما فعله بنو إسرائيل، وما فعله السامري، وما هو معنى الآيات - محلّ البحث - على نحو الدقّة، ولا يبدو هناك فرق كبير في النتيجة بين هذه الإختلافات.
فذهب بعضهم: إن "قذفناها" تعني أنّنا ألقينا أدوات الزينة التي كنّا قد أخذناها من الفراعنة قبل الحركة من مصر في النّار، وكذلك ألقى السامري ما كان معه أيضاً في النّار حتّى ذاب وصنع منه عجلا.
وقال آخرون: إنّ معنى الجملة أنّنا ألقينا أدوات الزينة بعيداً عنّا، فجمعها السامري وألقاها في النّار ليصنع منها العجل.
ويحتمل أيضاً أن تكون جملة (فكذلك ألقى السامري) إشارة إلى مجموع الخطّة التي نفذّها السامري.
وعلى كلّ حال، فإنّ كبير القوم إذا لام مَن تحت إمرته على إرتكابهم ذنباً ما، فإنّهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم، ويلقونه على عاتق غيرهم، وكذلك عبّاد العجل من بني إسرائيل، فإنّهم كانوا قد إنحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى الشرك، إلاّ أنّهم أرادوا أن يلقوا كلّ التبعة على السامري.
على كلّ، فإنّ السامري ألقى كلّ أدوات زينة الفراعنة وحليهم التي كانوا قد حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية - ولم يكن لها قيمة إلاّ أن تصرف في مثل هذا العمل المحرّم - في النّار (فأخرج لهم عجلا جسداً له خوار)(3) فلمّا رأى بنو إسرائيل هذا المشهد، نسوا فجأةً كلّ تعليمات موسى التوحيديّة (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى).
ويحتمل أيضاً أن يكون قائل هذا الكلام هو السامري وأنصاره والمؤمنون به.
وبهذا فإنّ السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى، بل مع إله موسى، وجرّ الناس إلى طريق الضلال: "فنسي".
ولكن بعض المفسّرين فسّروا "النسيان" بالضلال والإنحراف، أو أنّهم إعتبروا فاعل النسيان موسى (ع) وقالوا: إنّ هذا كلام السامري، وهو يريد أن يقول: إنّ موسى نسي أنّ هذا العجل هو ربّكم، إلاّ أنّ كلّ ذلك مخالف لظاهر الآية، وظاهرها هو ما قلناه من أنّ المراد هو أنّ السامري قد أودع عهده وميثاقه مع موسى وربّ موسى في يد النسيان، واتّخذ طريق عبادة الأصنام.
وهنا قال الله سبحانه توبيخاً وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء: (أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً) فإنّ المعبود الواقعي يستطيع على الأقل أن يُلبّي طلبات عباده ويجيب على أسئلتهم، فهل يمكن أن يكون سماع خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده، ذلك الصوت الذي لا يُشعر بأيّة
إرادة، دليلا على جواز عبادة العجل، وصحّة تلك العبادة؟
وعلى فرض أنّه أجابهم عن أسئلتهم، فإنّه لا يعدو أن يكون كإنسان عاجز لا يملك نفع غيره ولا ضرّه، بل وحتّى نفسه، فهل يمكن أن يكون معبوداً وهو على هذا الحال؟
أي عقل يسمح بأن يعبد الإنسان تمثالا لا روح له يظهر منه بين الحين والآخر صوت غير مفهوم، ويعظمه ويخضع أمامه؟
ولا شكّ أنّ هارون، خليفة موسى ونبي الله الكبير، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء، وأدّى واجبه في محاربة الإنحراف والفساد قدر ما يستطيع، كما يقول القرآن: (ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنّما فتنتم به) ثمّ أضاف: (وإنّ ربّكم الرحمن).
لقد كنتم عبيداً فحرّركم، وكنتم أسرى فأطلقكم، وكنتم ضالّين فهداكم، وكنتم متفرّقين مبعثرين فجمعكم ووحدّكم تحت راية رجل ربّاني، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم، فالآن (فاتّبعوني وأطيعوا أمري).
أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلماذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟
إلاّ أنّ بني إسرائيل تمسكّوا بهذا العجل عناداً، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل، ولا أدلّة هذا القائد الحريص، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة: (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى)(4).
والخلاصة: إنّهم ركبوا رؤوسهم وقالوا: الأمر هو هذا ولا شيء سواه، ويجب أن نعبد العجل حتّى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء، فلعلّه يسجد معنا للعجل! وعلى هذا فلا تتعب نفسك كثيراً، وكفّ عنّا يدك!
وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضاً.
ولكن، كما كتب المفسّرون - والقاعدة تقتضي ذلك أيضاً - فإنّ هارون لمّا أدّى رسالته في هذه المواجهة، ولم يقبل أكثر بني إسرائيل كلامه، إبتعد عنهم بصحبة القلّة الذين اتّبعوه، لئلاّ يكون إختلاطهم بهؤلاء دليلا على إمضاء طريقهم المنحرف.
والعجيب أنّ بعض المفسرين ذكروا أنّ هذا التبدّل والإنحراف في بني إسرائيل قد حدث في أيّام قليلة فحسب، فبعد أن مضت (35) يوماً على ذهاب موسى (ع) إلى ميقات ربّه، شرع السامري بعمله، وطلب من بني إسرائيل أن يجمعوا كلّ أدوات الزينة التي أخذوها كعارية من الفراعنة وما أخذوه منهم بعد غرقهم، ووضعوها جميعاً في اليوم السادس والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن والثلاثين في موقد النّار، وأذابوها ثمّ صنعوا منها تمثال العجل، وفي اليوم التاسع والثلاثين دعاهم السامري إلى عبادته، فقبلها جماعة عظيمة - وعلى بعض الرّوايات ستمائة ألف شخص - وفي اليوم التالي، أي في نهاية الأربعين يوماً، رجع موسى(5).
ولكن إفترق عنهم هارون مع القلّة من المؤمنين الثابتين، والذين كان عددهم قرابة إثني عشر ألفاً، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه!
بحوث
1 - شوق اللقاء!
قد يكون قول موسى (ع) في جواب سؤال الله تعالى له حول إستعجاله إلى الميقات حيث قال: (وعجّلت إليك ربّ لترضى) عجيباً لدى من لم يعرف شأن جاذبية عشق الله، إلاّ أنّ الذين أدركوا هذه الحقيقة بكلّ وجودهم، والذين إذا إقترب موعد الوصال إشتدّ لهيب العشق في أفئدتهم، يعلمون جيداً أيّة قوّة خفيّة كانت تجرّ موسى (ع) إلى ميقات الله، وكان يسير سريعاً بحيث تخلّف عنه قومه الذين كانوا معه.
لقد كان موسى (ع) قد تذوّق حلاوة الوصال والحبّ والمناجاة مع الله مراراً، فكان يعلم أنّ كلّ الدنيا لا تعدل لحظة من هذه المناجاة.
أجل .. هذا هو طريق الذين تجاوزوا مرحلة العشق المجازي نحو مرحلة العشق الحقيقي .. عشق المعبود الأزلي المقدّس والكمال المطلق، والحسن واللطف الذي لا نهاية له، وكلّ ما عند المحسنين الصالحين جميعاً عنده بمفرده، بل إنّ جمال وحسن المحسنين كلّه ومضة بسيطة من إحسانه الدائم الخالد.
فيا إلهنا الكبير مُنّ علينا بذرّة من هذا العشق المقدّس.
يقول الإمام الصادق (ع) - كما روي عنه - "المشتاق لا يشتهي طعاماً، ولا يلتذّ شراباً، ولا يستطيب رقاداً، ولا يأنس حميماً، ولا يأوي داراً ... ويعبد الله ليلا ونهاراً، راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ... كما أخبر الله عن موسى بن عمران في ميعاد ربّه بقوله: وعجّلت إليك ربّ لترضى"(6).
2 - الحركات المناوئة لنهضة الأنبياء!
من الطبيعي أن توجد في مقابل كلّ ثورة حركة مضادّة تسعى إلى تحطيم نتائج الثورة، وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة، وليس سبب ذلك معقدّاً ولا غامضاً، لأنّ إنتصار ثورة ما لا يعني فناء كلّ العناصر الفاسدة من الفترة السابقة دفعة واحدة، بل تبقى حثالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، ومع إختلاف ظروف ومقدار وكيفيّة هؤلاء، فإنّهم يقومون بأعمال تناهض الثورة سرّاً أمّ علانية.
وفي حركة موسى بن عمران الثورية نحو توحيد وإستقلال وحرية بني إسرائيل، كان السامري زعيم هذه الحركة الرجعيّة المضادّة، فقد كان عالماً - كبقيّة قادة الحركات الرجعيّة - بنقاط ضعف قومه جيداً، وكان يعلم أنّه قادر على أن يستغلّ هذه النقاط فيثير الفتنة فيهم، فسعى أن يصنع من أدوات الزينة والذهب التي هي آلهة عبيد الدنيا، وتجلب إهتمام عوام الناس، عجلا على هيئة خاصة، وجعله في مسير حركة الريح - أو بالإستعانة بأيّة وسيلة أُخرى - ليخرج منه صوت.
وذلك بإنتهاز فرصة مناسبة - وهي غيبة موسى لعدّة أيّام - ونظراً إلى أنّ بني إسرائيل بعد النجاة من الغرق، ومرورهم على قوم يعبدون الأصنام، طلبوا من موسى صنماً; والخلاصة أنّهّ استغلّ كلّ نقاط الضعف النفسي، والفرص المكانية والزمانية المناسبة، وبدأ خطّته المضادّة للتوحيد.
وقد نظّم هذه المواد بمهارة فائقة بحيث حرّف في مدّة قصيرة أغلبية الجهلة من بني إسرائيل عن خطّ التوحيد إلى طريق الشرك.
وبالرغم من أنّ هذه الخطّة قد أُحبطت بمجرّد رجوع موسى وقوّة إيمانه ومنطقه بنور الوحي، ولكن إذا لم يرجع موسى فماذا كان سيحدث؟ إنّهم إمّا كانوا سيقتلون أخاه هارون حتماً، أو سيحجمونه بحيث لا يصل صوته إلى أحد.
أجل .. إنّ كلّ ثورة تحارب في البداية بهذه الصورة، فيجب الحذر دائماً، ومراقبة تحرّكات الشرك الرجعية، والقضاء على المؤامرات وهي في وكرها ومهدها.
وكذلك يجب الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ كثيراً من الثورات الحقيقيّة تعتمد في البداية - ولأسباب مختلفة - على فرد أو أفراد معينين، بحيث أنّهم إذا فقدوا وغابوا عن الساحة سيعود الخطر ويهدّد الثورة من جديد، ولذلك يجب السعي من أجل خلق الموازين الثقافية الثورية في عمق المجتمع بأسرع ما يمكن، وكذلك تربية الناس بشكل لا تهزّهم العواصف المضادّة للثورة، بل يقفون كالجبل الأصمّ أمام كلّ حركة رجعيّة متخلّفة.
وبتعبير آخر، فإنّ واحدة من وظائف القادة المخلصين أن ينقلوا الموازين والمعايير منهم إلى المجتمع، ولا شكّ أنّ هذا الأمر المهمّ يحتاج إلى مضي زمان، إلاّ أنّه يجب السعي لإختصار هذا الزمن إلى أقلّ ما يمكن.
أمّا من كان السامري؟ وكيف كانت عاقبة أمره؟ فسنتحدّث عنه في الآيات المقبلة إن شاء الله تعالى.
3 - مراحل القيادة
لا شكّ أنّ هارون (ع) لم يأل جهداً في أداء رسالته عند غياب موسى (ع)، إلاّ أنّ جهل الناس من جهة، وترسبّات مرحلة العبودية والرقّ وعبادة الأصنام من جهة أُخرى، قد أفشلت جهوده، فهو قد نفّذ واجبه - حسب الآيات محل البحث - على أربع مراحل:
الأُولى: إنّه نبّه هؤلاء وأعلمهم أنّ هذا العمل يشكّل تيار إنحرافي، وهو موضع إختبار خطير للجميع لتصحو العقول الغافلة، وليعي الناس ويفكّروا لئلاّ يُغلبوا على أمرهم، إذ قال لهم: (ياقوم إنّما فتنتم به).
الثّانية: إنّه ذكرهم بنعم الله المختلفة عليهم منذ بدء ثورة موسى (ع) إلى زمان نجاتهم من قبضة الفراعنة، خاصّةً وإنّه وصف الله بصفة رحمته العامّة، ليكون الأثر أعمق، وليؤمل هؤلاء في غفران هذا الذنب الكبير: (وإنّ ربّكم الرحمن).
الثّالثة: إنّه نبهّهم على مقام نبوّته وخلافته لأخيه موسى (فاتّبعوني).
وأخيراً فإنّه عرفهم بواجباتهم الإلهيّة (وأطيعوا أمري).
4 - سؤال وجواب؟
لقد أورد المفسّر المعروف "الفخر الرازي" هنا إشكالا وهو ينتظر جوابه والردّ عليه وهو أنّه قال: إنّ الرافضة تمسّكوا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع، بل صعد المنبر وصرّح بالحقّ ودعا الناس إلى مبايعة نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخطأ لكان يجب على علي (ع) أن يفعل ما فعله هارون وأن يصعد على المنبر من غير تقيّة ولا خوف وأن يقول: فاتّبعوني وأطيعوا أمري.
فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الاُمّة كانت على الصواب.
إلاّ أنّ الرازي غفل في هذا الباب عن مسألتين أساسيتين:
1 - إنّ ما يقوله من أنّ علياً (ع) لم يقل شيئاً في شأن خلافته التي لا ينازع فيها خطأ محض، لأنّ في أيدينا وثائق كثيرة تؤكّد أنّ الإمام قد بيّن هذا الموضوع في موارد مختلفة، تارةً بصراحة، وأُخرى تلميحاً، وتلاحظ في نهج البلاغة أمثلةً مختلفة كالخطبة الشقشقية - الخطبة الثّالثة - والخطبة 87، 94، 154، 147، وكلّها تتحدّث في هذا المجال.
وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا ذيل الآية (67) من سورة المائدة بعد ذكر قصّة الغدير، روايات عديدة، وأنّ عليّاً (ع) قد إستدلّ وإستند إلى حديث الغدير مراراً لإثبات موقعه وخلافته.
ولمزيد التوضيح راجع ذيل الآية (67) من سورة المائدة.
2 - لقد كانت هناك ظروف خاصّة بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ المنافقين الذين كانوا يعدّون الأيّام يوماً بعد يوم وهم يترقّبون وفاة النّبي وكانوا قد أعدّوا أنفسهم ليطعنوا الإسلام الفتيّ طعنةً نجلاء، ولذا نرى أنّ أصحاب الردّة - المناوئين للإسلام - قد ثاروا مباشرةً في زمان أبي بكر، ولولا إتّحاد المسلمين وفطنتهم وحذرهم لكان من الممكن أن ينزلوا بالإسلام ضربات قاسية، ومن أجل ذلك سكت علي (ع) عن حقّه لئلاّ يستغلّ العدو هذا الأمر.
ثمّ إنّ هارون - مع أنّ موسى كان على قيد الحياة - قال بصراحة ردّاً على ملامة أخيه له على تقصيره: (إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل)(7) وهو يوحي بأنّه أيضاً قد تراجع بعض الشيء نتيجة الخوف من الإختلاف.
1- من البديهي أن لا أحد يصمّم على أن يحلّ عليه غضب الله، بل المراد من العبارة أنّكم في وضع كأنّكم قد صمّمتم مثل هذا التصميم في حقّ أنفسكم.
2- "مَلْك" و "مِلك" كلاهما تعني تملّك الشيء، وكأنّ مراد بني إسرائيل أنّنا لم نتملّك هذا العمل، بل وقعنا تحت تأثيره حتّى إختطف قلوبنا وديننا من أيدينا. وإعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة مرتبطة بجماعة قليلة من بني إسرائيل لم تعبد العجل. ويقال إنّ ستمائة ألف شخص من هؤلاء أصبحوا من عبدة العجل، وبقي منهم إثنا عشر ألفاً فقط على التوحيد. لكن يبدو أنّ التّفسير الذي قلناه أعلاه هو الأصحّ.
3- "الخوار" صوت البقرة والعجل، ويطلق أحياناً على صوت البعير.
4- (لن نبرح) من مادّة (برح) بمعنى الزوال، وإنّ ما نراه في أنّ معنى جملة (برح الخفاء) أي الظهور والوضوح لأنّ زوال الخفاء ليس إلاّ الظهور، ولمّا كانت (لن) تدلّ على النفي، فإنّ معنى جملة (لن نبرح) أنّنا سنستمر في هذا العمل.
5- مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
6- تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص388.
7- سورة طه، 94.