الآيات 96 - 98
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحـتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً96 فَإِنَّمَا يَسَّرنـهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً97 وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْن هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّن أَحَد أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزَا98﴾
التّفسير
الإِيمان والمحبوبية:
هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم، والكلام فيها أيضاً عن المؤمنين، والظالمين الكافرين، وعن القرآن وبشاراته وإِنذراته، وهي - في الحقيقة - عصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة.
تقول أوّلا: (إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً).
لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الآية خاصّة بأمير المؤمنين(ع)، والبعض اعتبرها شاملة لكل المؤمنين.
وقال آخرون: إِنّ المراد أنّ الله سبحانه يلقي محبّة هؤلاء في قلوب أعدائهم، وتصبح هذه المحبّة رباطاً ولجاماً في رقابهم تجرهم إِلى الإِيمان.
وذهب البعض بأنّها تعني محبة المؤمنين بعضهم لبعض، والتي تكون سبباً في قوتهم وزيادة قدرتهم، ووحدة كلمتهم.
واعتبرها بعضهم إِشارة إِلى محبّة المؤمنين وإِخوتهم لبعضهم في الآخرة، وقالوا: بأنّ هؤلاء سيعيشون نوعاً من ا لعلاقة فيما بينهم بحيث يكونون في أعلى درجات السعادة والسرور.
غير أننا إِذا فكرنا وتدبرنا بسعة نظر في المفاهيم الواسعة للآية، فسنرى أن جميع هذه التفاسير قد جمعت في معنى الآية بدون أن تتضاد مع بعضها.
والنطقة الرئيسية للآية، هي أنّ للإِيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة، فإنّ الإعتقاد بوحدانية الله، والإِيمان بدعوة الأنبياء، والذي يتجلى نوره في روح الإِنسان وفكره، وقوله وعمله، بصورة أخلاق إِنسانية عالية، وكذلك يتجلى في التقوى والطهارة، والصدق والأمانة، والشجاعة والإِيثار، فيها قوة مغناطيسية عظيمة جاذبة وخاطفة.
وحتى الأفراد الملوثون، فإِنّهم يرتاحون للطاهرين الصالحين، ويتنفرون من القذرين أمثالهم، ولذلك فإنا نراهم - مثلا - إِذا أقدموا على الزواج فإنّهم يؤكّدون على توفر جانب العفة والطاهرة والأمانة والصدق في الزوجة.
وهذا أمر طبيعي، وهو في الحقيقة أوّل مكافأة يعطيها الله للمؤمنين والصالحين في هذه الدنيا وتصحبهم إِلى عالم الآخرة أيضاً.
لقد رأينا بأُم أعيننا كثيراً من هؤلاء الأتقياء عندما يحين أجلهم ويرتحلون عن هذه الدنيا، فإنّ الناس يبكونهم، بالرغم من أنّهم لم يكن لهم منصب ولا مركز اجتماعي، ولكن الناس يشعرون يفقدهم، ويعتبرون أنفسهم شركاء في مصاب هؤلاء وعزائهم.
أمّا ما اعتقده البعض من أنّ ذلك في شأن أمير المؤمنين(ع)، وقد أشير إِلى ذلك في روايات عديدة، فإنّ الدرجة العالية والمرحلة السامية منه مختصة بإمام المتقين - وسنبحث بعض هذه الرّوايات مفصلا في الملاحظات الآتية - إلاّ أنّ هذا لا يكون مانعاً من أن يذوق ويتمتع كل المؤمنون والصالحون في المراتب الأُخرى بطعم المحبّة هذا، ويحظون به لدى عامّة الناس، وأن يفوزوا بسهم من هذه المودّة الإِلهية.
وسوف لا يكون مانعاً من أن يضمر الأعداء - أيضاً - في داخلهم المحبّة والإِحترام تجاه هؤلاء.
وهناك نكتة لطيفة نقرؤها في حديث عن النّبي(ص): "إِنّ الله إِذا أحبّ عبداً دعا جبرئيل، فقال: يا جبرئيل، إِنّي أحب فلاناً فأحبّه، قال: فيحبّه جبرئيل، ثمّ ينادي في أهل السماء: إِن الله يحب فلاناً فأحبّوه، قال: فيحبّه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض.
وإِن الله إِذا أبغض عبداً دعا جبرئيل، فقال: يا جبريئل، إِنّي أبغض فلاناً فابغضه، قال: فيبغضه جبرئيل، ثمّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله يبغض فلاناً فابغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثمّ يوضع له البغضاء في الأرض"(1).
إِنّ هذا الحديث العميق المحتوى يبيّن أن للإِيمان والعمل الصالح نوراً وضياء بسعة عالم الوجود، ويعم نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم الخلقة، وإِن الذات الإِلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد، فهم محبوبون عن كل أهل السماء، وتقذف هذه المحبّة في قلوب أهل الأرض.
حقاً، أي لذة أكبر من أن يحس الإِنسان بأنّه محبوب من قبل كل الطاهرين والصالحين في عالم الوجود؟ وأي عذاب أشد من أن يشعر الإِنسان بأن الأرض والسماء والملائكة والمؤمنين جميعاً متنفرون ومشمئزون منه؟!
ثمّ تشير الآية التالية إِلى القرآن الذي هو منبع ومصدر تنمية الإِيمان والعمل الصالح، فتقول: (فإنّما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً).
"اللُّد" - بضم اللام وتشديد الدال - جمع أَلدّ - على وزن مَعَدّ - بمعنى العدو الشديد العداوة، وتطلق على المتعصب العنود في عداوته، ولا منطق له.
وتقول الآية الأخيرة كتهدئة لخاطر النّبي(ص) والمؤمنين، وتسلية لهم، خاصّة مع ملاحظة أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، وكان المسلمون يومذاك تحت ضغط شديد جدّاً.
وكذلك تقول بنبرة التهديد والتحذير لكل الأعداء اللجوجين العنودين: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً).
"الركز" بمعنى الصوت الهادىء، ويقال للأشياء التي يخفونهاتحت الأرض: "ركاز"، أي إِنّ هؤلاء الأقوام الظالمين، وأعداء الحق والحقيقة المتعصبين، قد تمّ تدميرهم وسيحقهم الى حدّ لا يسمع صوت خفي منهم.
بحثان:
1 - محبّة علي(ع) في قلوب المؤمنين
لقد صدرت روايات عديدة عن النّبي(ص) في سبب نزول قوله تعالى: (إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) في كثير من كتب الحديث وتفسير السنة والشيعة، وهي تبيّن أنّ هذه الآية نزلت لأول مرّة في حق علي(ع)، ومن جملة من يمكن ذكرهم: العلاّمة الزمخشري في الكشاف، وسبط ابن الجوزي في التذكرة، والكنجي الشافعي، والقرطبي في تفسيره المشهور، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى، والنيسابوري في تفسيره المعروف، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، والسيوطي في الدر المنثور، والهيثمي في الصواعق المحرقة، والآلوسي في روح المعاني.
ومن جملة الأحاديث:
1 - يروي الثعلبي في تفسيره عن البراء بن عازب: إنّ رسول الله(ص) قال لعلي(ع) : "قل: اللّهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في قلوب المؤمنين مودّة"، فأنزل الله تعالى: (إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً)(2).
وقد وردت نفس هذه العبارة باختلاف يسير في كثير من الكتب الأُخرى.
2 - وقد نقل عن ابن عباس - في كثير من المصادر الإِسلامية - أنّه قال: نزلت في علي بن أبي طالب: (إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) قال: محبة في قلوب المؤمنين(3).
3 - روي في كتاب "الصواعق" عن محمّد بن الحنفية في تفسير هذه الآية: لا يبقي مؤمن إِلاّ وفي قلبه ودّ لعلي ولأهل بيته(4).
4 - وربّما روي لهذا السبب عن أمير المؤمنين علي(ع) نفسه في رواية صحيحة معتبرة أنّه قال: "لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنّه قضى فانقضى على لسان النّبي الأمي أنّه قال: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق"(5).
5 - ونقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(ع): "ودعا رسول الله لأمير المؤمنين في آخر صلاته، رافعاً بها صوته ليسمع الناس: "اللّهم هب لعلي المودة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين، فأنزل الله: إن الذين آمنوا ... " الآية(6).
على كل حال - وكما قلنا في تفسير الآيات أعلاه - فإنّ نزول هذه الآية في علي(ع) لأنّه المصداق الاتم والاكمل، و لا يمنع من تعميمها في شأن كل المؤمنين على اختلاف المراتب.
2 - تفسير جملة: (يسرناه بلسانك)
"يسّرناه"، من مادة التيسير، أي التسهيل، والله سبحانه يقول: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً)، فيمكن أن يكون هذا التسهيل من جوانب مختلفة:
1 - من جهة أن القرآن عربي فصيح، عذب سلس العبارة، وله نغمة تفرح القلب، وتلاوته سهلة على اللسان.
2 - من جهة أن سبحانه قد سلط نبيّه ومكنه من آيات القرآن، بحيث كان يستفيد منها بكل بساطة في كل مكان، ولحل أية مشكلة، وكان يتلوها دائماً على المؤمنين، وبلا انقطاع.
3 - من جهة المحتوى، برغم عمق معانيه وكثرة ما يستنبط منه، فإن إِدراكه سهل وبسيط في الوقت نفسه، ولا ريب أن كل هذه الحقائق الكبيرة والمهمة التي صبت في قالب هذه الألفاظ المحدودة، سهلة الإِدراك، وهي بذاتها دليل على إِعجاز القرآن.
وقد تكررت هذه الجملة في عدة آيات من سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).
إِلهنا، نوّر قلوبنا بنور الإِيمان، ووجودنا بنور العمل الصالح، واجعلنا من محبي المؤمنين والصالحين، وخاصّة إِمام المتقين، وأمير المؤمنين علي(ع)، وألق محبتنا في قلوب كل المؤمنين.
اللّهم، اجمع شمل مجتمعنا الإِسلامي الكبير الذي وقع في قبضة" الأعداء - مع كل ما له من كثرة العدد وسعة الإِمكانيات المادية والمعنوية - والضعف والعجز الذي اعتراه نتيجة تبعثر وتفرقة الصفوف .. اللهم ألف شمله واجمعه حول مشعل الإِيمان والعمل الصالح.
ربّنا، كما أهلكت الجبارين المتمردين السابقين حتى لا يُسمع لهم حس ولا صوت، فامح جبابرة زماننا أيضاً، وادفع شرّهم عن المستضعفين، ومنّ بالنصر النهائي على المؤمنين في ثورتهم ضد المستكبرين.
نهاية سورة مريم
1ـ لقد ورد هذا الحديث في كثير من المصادر الحديثية المعروفة، وكذلك في كثير من كتب التّفسير، إِلاّ أنّنا اخترنا المتن الذي نقل في تفسير (في ظلال القرآن)، ج 5، ص 254 عن أحمد ومسلم والبخاري.
2 ـ نقلا عن إِحقاق الحق، الجزء 3، ص 83 ـ 86.
3 ـ المصدر السّابق.
4ـ المصدر السابق.
5 ـ روح المعاني الجزء 16، ص 130، ومجمع البيان الجزء 6، ص 533، وكذلك نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 45.
6 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 363.