الآيات 53 - 57
﴿وَقُلْ لِّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِي هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَـن كَانَ لِلاِْنْسَانَ عَدُوَّاً مُّبِيناً53 رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا54 وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَءَاتَيْنَا دَاوُد زَبُوراً55قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا56 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً57﴾
التّفسير
التعامل المنطقي مَع المعارضيين: الآيات السابقة عرضت لقضية المبدأ والمعاد، أمّا الآيات التي نحنُ بصددها فهي توضح أسلوب المحادثة والإِستدلال مَع المعارضين وَخصوصاً المشركين، لأنَّهُ مهما كانَ المذهب عالي المستوى، والمنطق قوياً، فإنَّ ذلك لا تأثير له ما دامَ لا يتزامن مَع أُسلوب صحيح للبحث والمجادلة مُرفقاً بالمحبّة بدلا مِن الخشونة.
لذا فإنَّ أوّل آية مِن هَذِهِ المجموعة تقول: (وَقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن).
الأحسن مِن حيثُ المحتوى وَالبيان، والأحسن مِن حيث التلازم بين الدليل وَمكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية، وَلكن لماذا يستعمل هَذا الأُسلوب مَع المعارضين؟
الجواب: إِذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام والمجادلة فـ (إِنَّ الشيطان ينزغ بينهم) ويثير بينهم الفتنة والفساد، فلا تنسوا: (إِنَّ الشيطانَ كانَ للإِنسان عدوّاً مبيناً).
أمّا مَن هم (العباد) المقصودون في هَذِهِ الآية؟
في صدد الجواب هُناك رأيان مُختلفان بين المفسّرين، وَكل رأي مدعم بالقرائن التي تؤيدهُ; هَذان الرأيان هما:
أوّلا: المقصود مِن (عبادي) هُم عبيده المشركون، إِذ بالرغم مِن أنّهم سلكوا طريقاً خاطئاً، إِلاَّ أنّ الله تبارك وَتَعالى يناديهم (عبادي) وَذلكَ مِن أجل إِثارة عواطفهم الإِنسانية، وَيدعوهم إِلى (القول الأحسن) ويعني هُنا كلمة التوحيد وَترك الشرك وَمراقبة أنفسهم مِن وسواس الشيطان، وهكذا يكون الهدف مِن هَذِهِ الآيات - بعد ذكر أدلة التوحيد والمعاد - هو النفوذ إِلى قلوب المشركين حتى يستيقظ ذوي الإِستعداد مِنهم.
الآيات التي تلي هَذِهِ الآية - كما سيأتي - تُناسب هَذا المعنى، وَكون هَذِهِ السورة مكّية يرجح هَذا الرأي، إِذ لم يكن الجهاد قد فرضَ بعد وَكانت الدعوة بالمنطق والأُسلوب الحسن فقط هي المأمور بها.
ثانياً: كلمة (عبادي) خطاب للمؤمنين، حيث تعلّمهم الآية أُسلوب النقاش مَع الأعداء، فقد يحدث في بعضِ الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجُدد بخشونة مَع معارضي عقيدتهم وَيقولون لهم بأنّهم مِن أهل النّار والعذاب، وأنّهم ضالون، وَيعتبرون أنفسهم مِن الناجين، قد يكون هَذا الموقف سبباً في أن يقف المعارضون موقفاً سلبياً إِزاء دعوة الرّسول(ص).
اِضافة لذلك، فإنّ الإتهامات التي يطلقها المشركون ضدَّ شخص رسول الله(ص) وَيتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر، قد تكون سبباً في أن يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم وَيبدأوا بالتشاجر مَع المشركين وَيستخدموا الألفاظ الخشنة ضدَّهم... القرآن يمنع المؤمنين مِن هَذا العمل وَيدعوهم إِلى التزام اللين والتلطَّف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في أُسلوب التخاطب، حتى يأمنوا مِن إِفساد الشيطان.
كلمة (بينهم) وُفقاً لهذا الرأي توضح أنَّ الشيطان يحاول زرع الفساد بين المؤمنين وَمَن يخالفهم; أو أنَّهُ يحاول النفوذ إِلى قلوب المؤمنين لإِفسادها "ينزغ" مُشتقة مِن "نزغ" وتعني الدخول إِلى عمل بنيّة الافساد.
بملاحظة مجموع هَذِهِ القرائن يتبيّن لنا أنَّ التّفسير الثّاني ينطبق مَع ظاهر الآية الكريمة أكثر مِن التّفسير الأوّل، لأنَّ كلمة (عبادي) في القرآن تستخدم عادة لمخاطبة المؤمنين، إِضافة إِلى أن سبب نزول الآية يُؤيد هَذا المعنى وَيدعم هَذا التّفسير، إِذ ينقل بعض المفسّرين أنَّ المشركين كانوا يُؤذون أصحاب الرّسول(ص) في مكّة وَيضيِّقون عليهم، وَفي أثناء ذلك كان بعضهم يَأتي إِلى رسول الله(ص) يستأذنَهُ وَيلح عليه في مُواجهة المشركين بالمثل (على الأقل الرد عليهم بالفاظ شديدة تناسب ألفاظ المشركين) والبعض يطلب الإِذن بالجهاد، وَلكن الرّسول(ص) كانَ يبيّن لهم بأنّه لم يُؤذَن له بعد القيام بهَذِهِ الأعمال.
وَفي هَذِهِ الأثناء نزلت الآيات أعلاه تؤكّد بأنْ التكليف مازال يتمثل في استمرار الدعوة بالكلام، والمجادلة باللطف وبالتي هي أحسن(1).
الآية التي بعدها تضيف: (ربّكم أعلمُ بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبّكم).
بناءً على الرأيين السابقين في تفسير مَن المخاطَب في تعبير (عبادي) فإنَّ هَذِهِ الآيه أيضاً - وَتبعاً لما سبق - تَحتَمِلُ تفسيرين هما:
الأوّل: أيّها المشركون; إنَّ ربّكم ذو رحمة واسعة، وذو عقاب اليم، وَسيشملكم مُنهما ما يلائم أعمالكم، وَلكن الأفضل أن تتوسلوا برحمته الواسعة وَتحذروا عذابه.
الثّاني: لا تظنوا أيّها المؤمنون بأنّكم وحدكم الناجون، وأن غيركم سيكون مصيره النّار، فالله أعلم بأعمالكم وَنواياكم، وَلو أراد عزَّوجلّ لأخذكم بذنوبكم، وَلو شاء لشملكم برحمته، ففكروا قليلا في أنفسكم وَليكن حكمكم على أنفسكم والآخرين بالانصاف.
وفي آخر الآية مُواساة للرّسول(ص) الذي كان يتأذى وَيتألم مِن عدم إيمان المشركين، إذ يقول تعالى: (وَما أرسلناك عليهم وَكيلا).
إِنَّ مسؤوليتك - يا رسول الله - هي الإِبلاغ الواضح، والدعوة الحثيثة نحو الحق، فإذ آمنوا فهو الأفضل، أمّا إن لم يُؤمنوا فسوف لن يصيبك ضرر، لأنك أنجزت مسؤوليتك وَقمت بواجبك.
وَبالرغم مِن أنَّ المخاطب في الآية هو الرّسول(ص)، إلاَّ أنَّ مِن غير المستبعد أن يكون هدف الخطاب جميع المؤمنين.
وَهَذا دليل آخر على التّفسير الثّاني للمعنى مِن خطاب (عبادي)، إذ يقول القرآن للمؤمنين: إِنَّ مسؤوليتكم هي الدعوة سواء آمنوا أم لم يؤمنوا.
لذا لا داعي لعدم ارتياحكم الذي قد يُؤدي بكم إِلى اتباع الخشونة مَع غير المؤمنين، والخروج بالتالي عن طريق التي هي أحسن، ممّا يؤدي إِلى نزغ الشيطان.
الآية التّالية ذهبت أكثر مِن الآية السابقة في التعبير عن إحاطه الله تبارك وَتعالى وَعلمه بأعمال ونيّات عباده، فقالت: (وَربّك أعلمُ بمن في السماوات والأرض).
ثمّ أضافت: (وَلقد فضلنا بعض النّبيين على بعض وآتينا داوُد زبوراً).
هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وَشكوكهم، حيثُ كانوا يقولون - بأُسلوب استهزائي ـ: لماذا انتخب الله للنّبوة محمّد اليتيم، ثمّ ما الذي حصل حتى أصبح هَذا اليتيم ليس نبيّاً وَحسب، وإنّما خاتم الأنبياء؟
القرآن يقول لهؤلاء: لا تعجبوا مِن ذلك، لأنَّ الله عليم بقيمة كل إنسان، وَهو سبحانُه وَتعالى ينتخب أنبياءه مِن بين عامّة الناس، وَيفضل بعضهم على بعض، إِذ جعل أحَدهم (خليل الله) والآخر (كليم الله) والثّالث (روح الله)، أمّا نبيّنا فقد أنتخبُه بعنوان (حبيب الله).
وباختصار: لقد فضل الله بعض النّبيين على بعض لموازين يعلمها هو وَتختص بها حكمتُه جلَّ وَعلا.
أمّا لماذا اختار تبارك وَتعالى (داود) مِن بين جميع الأنبياء، وَذكر (الزبور) مِن دون الكتب السماوية الأُخرى؟...
قد يكون السبب مايلي:
أوّلا: يختص زبور داوُد(ع) مِن بين جميع كُتب الأنبياء بأنَّ جميعهُ على شكل مُناجاة وَدعاء، وَذكرهُ هُنا يتلائم أكثر مَعَ موقع هَذِهِ الآيات وَحديثها عن القول الحسن والكلام الجميل.
ثانياً: في زبور داوُد إخبار عن حكومة الصالحين الذين هُم ظاهراً أناس فقراء وَيتامى.
وَهَذا الإِخبار يتناسب مَع دعوة الرّسول(ص) والمؤمنين الذين يكونوا عادة في زمرةِ الفقراء، وَهو رَد على إشكال المشركين وأسئلتهم وشكوكهم(2).
ثالثاً: بالرّغم مِن أنَّ داوُد(ع) كان له حكم عظيم وَدولة كبيرة وَملك واسع، إِلاَّ أنَّ الله سبحانه لم يجعل هَذِهِ الأُمور سبباً لإِفتخاره، بل اعتبر كتاب الزّبور فخره، حتى يدرك المشركون أنَّ عظمة الإنسان، ليسَ لها علاقة بالمال وَالثروة وَوجود الحكومة والسلطة، كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاةً للذل أو دليلا على الحقارة.
رابعاً: بعض اليهود قالوا: لا يمكن نزول كتاب سماوي آخر بعدَ موسى(ع)، والقرآن يقول لهم: إنّنا أعطينا داوُد زبوراً، فلماذا تتعجبون مِن نزول القرآن؟ (بالطبع كتاب داوُد كان كتاباً للأخلاق وَليسَ للأحكام، وَلكِنَّهُ نَزَلَ من الله سبحانه وَتَعالى بعد التّوراة).
في كل الأحوال، ليسَ هُناك مِن مانع أن تكون النقاط الأربع أعلاه سبباً لإنتخاب داوُد وَزبوره مِن بين جميع الأنبياء، وَجميع الكتب السماوية.
الآية التي تليها تستمر في اتجاه الآيات السابقة، إِذ تقول للرّسول(ص) أن يخاطب المشركين بقوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم مِن دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم وَلا تحويلا).
إِنَّ هَذِهِ الآية - في الحقيقة، كما في آيات أُخرى كثيرة - تبطل مَنطق المشركين وَتضرب، صميم عقيدتهم مِن هَذا الطريق، وَهو أنَّ عبادة الآلهة مِن دون الله، إمّا بسبب جلب المنفعة أو دَفع الضرر، في حين أنَّ الآلهة التي يعبدونها لَيس لها القدرة على حل مُشكلة معينة أو حتى تحريكها; أي نقل المشكلة مِن مستوى معين إِلى مستوى أقل.
لذا فإنَّ ذكر جملة (وَلا تحويلا) بعد قوله (فلا يملكون كشف الضرّ) إشارة إِلى أنّ هؤلاء ليست لهم القدرة للتأثير الكامل في حل المشاكل بشكل نهائي، وَلا القدرة للتأثير الناقص في تغيير هَذِهِ المشاكل وَحلَّها بشكل جزئي.
"زعمتم" مأخوذة مِن "زعم" وَهي عادة ما تعني المعنى الناقص، لذا نُقل عن ابن عباس أنَّهُ متى ما جاءت كلمة (زعم) في القرآن فإنّها تعني الكذب والعقائد الباطلة.
أمّا الراغب الأصفهاني في كتاب المفردات فيقول: "الزعم حكاية قول يكون مظنَّة للكذب".
لذا فإنَّ هَذِهِ الكلمة وَردت مذمومة في جميع الموارد التي ذكرت في القرآن الكريم.
أمّا كلمة (كشف) ففي الأصل تعني إِبعاد الستار أو اللباس أو ما شابهُه عن شي معين.
وإِذا استخدمت في تعبير (كشف الضر) فتعني إِبعاد الحزن والغم والمرض; والسبب في ذلك أنّ هَذِهِ الأُمور تعتبر كالستار التي يغطي وَجه الإِنسان وَجسمه، إِذ تغطي الوجه الحقيقي الذي هو عبارة عن السلامة والراحة والهدوء، لذلك فإنَّ إِزالة هذا الغم والحزن يعتبر (كشفاً للضر).
مِن الضروري أيضاً الإِلتفات هُنا إِلى ملاحظة مهمّة هي أنَّ استخدام تعبير "الذين" في هَذِهِ الآية لا يشمل جميع المعبودات التي يشركها الإِنسان مَع الله (كالأصنام وَغيرها) بل يشمل الملائكة والمسيح وَأمثالهم، لأنَّ (الذين) في اللغة العربية هي اسم إشارة يستخدم عادة للعاقل.
بعد ذلك تؤكّد الآية التالية على ما ذكرناه في الآية السابقة، فتقول: هل تعلمون لماذا لا يستطيع الذين تدعونهم مِن دون الله أن يحلّوا مشاكلكم، أو أن يجيبوا لكم طلباتكم بدون إِذن الله سبحانه وَتعالى؟
الآية تجيب على ذلك بأنَّ هؤلاء أنفسهم يذهبون إِلى بيت الله، وَيلجأون للتقرب مِن الذات الإِلهية المقدَّسة لقضاء حوائجهم وَحل مشاكلهم وَتحقيق ما يريدونه: (أُولئك الذين يدعون يبتغون إِلى ربّهم الوسيلة... أيّهم أقرب ... وَيرجون رحمته ... وَيخافون عذابه ... إِنّ عذاب ربّك كان محذوراً).
في تفسير قوله تعالى (أيّهم أقرب) لمفسري القرآن العظيم آراء مُختلفة في ذلك، نحاول استعراضها فيما يلي:
ذهب بعض كبار مفسري الإِسلام إِلى: أنّ التعبير القرآني يُشير إِلى أنّ أولياء الله يذهبون إِلى الملائكة والأنبياء (الذين يعبدهم المشركون من دون الله)، أيّهم أقرب إِلى الله فيقربون إِليه أكثر.
وَهؤلاء لا يملكون شيئاً مِن عِندهم، بل كل ما يملكونه هو مِن الله، وَكلما يرتفعون في المقام تزداد طاعتهم وَعبوديتهم(3).
البعضُ الآخر مِن المفسّرين يعتقد بأنّ مفهوم التعبير القرآني هو أنّهم يحاولون التسابق في التقرُّب مِن الخالق، ففي طريق طاعة الله والتقرب مِن ذاته المقدَّسة اشترك هؤلاء في مسابقة معنوية، حيثُ يحاول كل واحد مِنهم أن يتقدم على الآخر في الميدان.
والآية - بعد ذلك - تقول: الذين يتصفون بهذه الصفات هل يُمكن عبادتهم مِن دون الله، وَهل هُم مستقلون(4)؟
أمّا التّفسير الذي يقول: إِنّهم يسلكون أي وسيلة تقربهم مِن الله، فاحتمالُه بعيد جدّاً، لأنَّ ضمير (هُم) في "أيّهم" والذي يُستخدم لجمع المذكر، لا يتلائم مَع هذا المعنى، بل كان يجب أن يكون "أيّها" ليستقيم الرأي و بالإضافة إِلى ذلك فإنَّ جملة (أيّهم أقرب) تقع على شكل مُبتدأ وَخبر، في حين أنَّها وفقاً لهَذا المعنى يجب أن تكون على شكل مفعول أوبدلا عن المفعول.
ماهي الوسيلة؟
هَذِهِ الكلمة استخدمت في موضعين في القرآن الكريم، الموضع الأوّل في هَذِهِ الآية، والآخر في الآية (35) مِن سورة المائدة في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وابتغوا إِليه الوسيلة وَجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون).
وَقد قُلنا هُناك: إِنَّ (الوسيلة) تعني (التقرب) أو الشيء الذي يبعث على التقرُّب (أو النتيجة التي يمكن الحصول عليها مِن التقرُّب).
على هذا الأساس فإنَّ هُناك مفهوماً واسعاً جدّاً لكلمة (الوسيلة) يشمل كل عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة أُخرى، لأنَّ كل هَذِهِ الأُمور تكون سبباً في التقرب مِن الله.
ونقرأ في الكلمات الحكيمة للامام علي(ع) في الخطبة (110) مِن نهج البلاغة قوله(ع): "إِنَّ أفضلَ ما توسلَ بِهِ المتوسلون إِلى الله سبحانه وتعالى، الإِيمان بِهِ وَبِرَسُولِهِ، والجهادُ في سبيله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وَصومُ شهرِ رمضان، وَحج البيت واعتمارُه، وَصلة الرحم، وصدقة السّر، وصدقة العلانية، وَصنائعُ المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان"(5).
شفاعة الأنبياء والصالحين والمقرّبين التي تكون مقبولة في حضرة الله تبارك وَتعالى، كما تصرح بذلك الآيات القرآنية، تعتبر أيضاً مِن وسائل التقرُّب.
وَينبغي هُنا عدم التباس الأُمور، إِذ أنَّ التوسُّل بالمقربين مِن الله تعالى لا يعني أنَّ الإِنسان يريد شيئاً مِن النّبي أو الإِمام بشكل مستقل، أو أنّهم يقومون بحل مشاكله بشكل مستقل عن الله، بل الهدف هو أن يضع الإنسان نفسه في خطّهم وَيطبق برامجهم، ثمّ يطلب مِن الله بحقهم، حتى يعطي الله إِذن الشفاعة لهم.
(لمزيد مِن التفاصيل يُراجع التّفسير الأمثل، الآية (53: من سورة المائدة).
1 ـ سورة القيامة، الآيتان 5، 6.
2 ـ "رُفات" على وزن "كُرات" وهو معنى يطلق على كلِّ شيء قديم وَمُتلاش.
3 ـ إِلَى هَذا الرأي يذهب الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره. يُراجح تفسيرهما للآية الكريمة.
4 ـ في كتاب مزاميز داوُد (الزّبور) والذي بين أيدينا الآن، نقرأ في الزبور (27): "لأنَّ الشريرين سوف ينقطعون، أمّا المتوكلون على الله فسيرثون الأرض، وَبعد مدّة سوف لا يكون هُناك شريرين، أمّا الحكماء والصالحون فسيرثون الأرض". وَفي المُزمور في الجملة (22) و (29) نقرأ تعابير مُشابهة. وَهَذا ينطبق مع ما جاءَ في القرآن الكريم في الآية (105) مِن سورة الأنبياء: (وَلَقد كتبنا في الزبور من بعدِ الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون).
5 ـ وُفقاً لهذا التّفسير تكون "أيّهم" بدل من ضمير "يبتغون"، أو مبتدأ لخبر محذوف، وَفي التقدير تكون الآية: (أيّهم أقرب) أيّهم أكثر دعاءً وابتغاءً للوسيلة.