الآيات 91 - 94
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عـهَدتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمـنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ91 وَلاَتَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أَنكَـثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمـنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيـمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ92 وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وحِدَةً وَلـكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ93 وَلاَتَتَّخِذُوا أَيْمـنَكُمْ دَخَلاًَ بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ94﴾
سبب النزول
يقول المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) في شأن نزول أوّل آية من هذه الآيات أنّها نزلت في الذين بايعوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على الإِسلام (وكان من المحتمل أن ينقض بعضهم البيعة لقلّة المسلمين وكثرة الأعداء)، فقال سبحانه مخاطباً لهم لا يحملنّكم قلّة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة).
التّفيسر
الوفاء بالعهد دليل الإِيمان:
بعد أن عرض القرآن الكريم في الآية السابقة بعض أصول الإِسلام الأساسية (العدل، والإِحسان، وما شابههما)، يتناول في هذه الآيات قسماً آخر من تعاليم الإِسلام المهمّة (الوفاء بالعهد والأيمان).
يقول أوّلاً: (وأوفوا بعهد اللّه إِذا عاهدتم)، ثمّ يضيف: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا إِنّ اللّه يعلم ما تفعلون).
إِنّ ظاهر معنى "عهد اللّه" - مع كثرة ما قال المفسّرون فيه - هو: العهود التي يبرمها الناس مع اللّه تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النّبي عهد مع اللّه أيضاً)، وعليه فهو يشمل كل عهد إِلهي وبيعة في طريق الإِيمان والجهاد وغير ذلك.
بل إِنّ التكاليف الشرعية التي يعلنها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي من نوع من العهد الإِلهي الضمني، وكذا الحال بالنسبة للتكاليف العقلية، لأنّ إِعطاء العقل والإِدراك من اللّه عزَّ وجلّ للإِنسان إِنّما يرافقه عهد ضمني، وهكذا يدخل الجميع في المفهوم الواسع لعهد اللّه.
أمّا مسألة "الأيمان" (جمع يمين، أيّ: القسم) التي وردت في الآية - والتي عرض فيها المفسّرون آراء كثيرة - فلها معنى واسع، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث أنّه يشمل العهود التي يعقدها الإِنسان مع اللّه عزَّوجلّ، بالإِضافة إِلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق اللّه.
وبعبارة أُخرى: يدخل بين إِطار هذه الجملة كل عهد يبرم تحت اسم اللّه وباستعمال صيغة القسم، وما يؤكّد ذلك ما تبعها من عبارة تفسيرية تأكيدية (وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا).
ونتيجة القول: أنّ جملة (أوفوا بعهد اللّه) خاصّة، وجملة (لا تنقضوا الأيمان) عامّة.
وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأُسس في ثبات أيّ مجتمع كان، تواصل الآية التالية ذكره بأُسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً)(1).
والآية تشير إِلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا عرفت بين قومها ب- (الحمقاء).
فما كانت تقوم به (رايطة) لا يمثل عملا بالا ثمر - فحسب - بل هو الحماقة بعينها، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهداً مع اللّه وباسمه، ثمّ يعمل على نقضه، فهو ليس بعابث فقط، وإِنّما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.
ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: (تتخذون أيمانكم دَخَلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أُمّة)(2)، أي لا تنقضوا عهودكم مع اللّه بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.
وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.
واعلموا (إِنّما يبلوكم اللّه به).
واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان، بل امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عدداً بأضعاف مضاعفة وأنتم قلّة.
وعلى أية حال... ستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل: (وليبينّن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) من هذا الأمر وغيره.
والآية التالية تجيب على توهم غالباً ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الإِمتحان الإِلهي والتأكيد على الإِلتزام بالعهود والوظائف، وخلاصته: هل أنّ اللّه لا يقدر على إِجبار الناس جميعاً على قبول الحق؟ فتقول: (ولو شاء اللّه لجعلكم أُمّة واحدة).
"أُمّة واحدة" من حيث الإِيمان والعمل على الحق بشكل إِجباري، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإِنسان في قبوله الحق، وعليه فقد جرت سُنّة اللّه بترك الناس أحراراً ليسيروا على طريق الحق مختارين.
ولا تعني هذه الحرية بأنّ اللّه سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإِنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جل شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الرّبانية، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا.
ولهذا يواصل القرآن الكريم القول بـ: (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء).
ولكنّ الهداية الإِلهية أو الإِضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث أنّ الخطوات الأُولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: (ولتسئلنّ عمّا كنتم تعملون).
وتشير هذه العبارة إِلى نسبة أعمال البشر إِلى أنفسهم، وتؤكّد على تحميلهم مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإِضلال الإلهيين وأن أيّاً منهما لا يستبطن صفة الإِجبار أبداً.
وقد بحثنا هذا الموضوع سابقاً (راجع تفسير الآية (26) من سورة البقرة).
وتأكيداً على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من العوامل المهمّة في ثبات المجتمع) يقول القرآن: (ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلا بينكم)أي وسيلة للخداع والنفاق، لأنّ في ذلك خطرين كبيرين:
الأوّل: (فتزل قدم بعد ثبوتها)، لأنّ مَنْ يبرم عهداً أو يطلق قسماً ونيته أنْ لا يفي بذلك فسوف لا يعول عليه الناس ولا يثقون به، ومثله كمن وضع قدمه على أرض قد بدت له أنّها صلبة ومحكمة، إِلاّ أنّها زلقة في الواقع، وستكون سبباً في انزلاقه وسقوطه.
الثّاني: (وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه) في هذه الدنيا (ولكم عذاب عظيم) في الآخرة.
من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفرهم من الدين الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإِسلام، وإِنْ عقدوا معكم عهداً فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به، وهذا ما يؤدي لمساوي، ومفاسد كثيرة وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.
وأمّا على صعيد الحياة الأُخرى فإِنه سيكون سبباً للعقاب بالعذاب الإِلهي.
بحثان
1 - فلسفة احترام العهد
كما هو معلوم فإِنّ الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثل أهم دعائم رسوخ المجتمع، بل من دعائم تشكيل المجتمع وإِخراجه من حالة الآحاد المتفرقة وإِعطائه صفة التجمع، وبالإِضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم للقيام بالفعاليات الإِجتماعية والتعاون على مستوى واسع.
والعهد والقسم من مؤكدات حفظ هذا الإِرتباط وهذه الثقة، وإِذا تصورنا مجتمعاً كان نقض العهد فيه هو السائد، فمعنى ذلك انعدام الثقة بشكل عام في ذلك المجتمع، وعندها سوف يتحول المجتمع الى آحاد متناثرة تفتقد الإِرتباط والقدرة والفاعلية الاجتماعيه.
ولهذا نجد أنّ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تؤكّد باهتمام بالغ على مسألة الوفاء بالعهد والأيمان، وتعتبر نقضها من كبائر الذنوب.
وقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) إِلى أهمية هذا الموضوع في الإِسلام والجاهلية واعتبره من أهم المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر "فإِنّه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعاً من تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر"(3).
ونجد في أحكام الحرب الإِسلامية أنّ إِعطاه الأمان من قبل فرد واحد من جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدو يوجب مراعاة ذلك على كل المسلمين!!
يقول المؤرخون والمفسّرون: من جملة الأُمور التي جعلت الكثير من الناس في صدر الإِسلام يعتنقون هذا الدين الإِلهي العظيم هو التزام المسلمين الراسخ بالعهود والمواثيق ورعايتهم لأيمانهم.
وما لهذا الأمر من أهمية بحيث دفع سلمان الفارسي لأنْ يقول: (تهلك هذه الأُمّة بنقض مواثيقها)(4).
أيْ أنّ الوفاء بالعهد والميثاق كما أنّه يوجب القدرة والنعمة والتقدم، فنقضهما يؤدي إِلى الضعف والعجز والهلاك.
ونجد في التأريخ الإِسلامي أنّ المسلمين عندما غلبوا جيش الساسانيين في عهد الخليفة الثّاني وأسروا الهرمزان قائد جيش فارس، وجاؤوا به إِلى عمر، قال له عمر: ما حجتك وما عذرك في انتقاضك مرّة بعد أُخرى؟
فقال: أخاف أنْ تقتلني قبل أنْ أخبرك.
قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماءً فأتى به في قدح غليظ.
فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أنْ أشرب في مثل هذا!! فأتى به في إِناء يرضاه...
فقال: إِنّي أخاف أنْ أُقتل وأنا أشرب.
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه...
فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش...
فقال: لا حاجة لي في الماء، إِنّما أردت أنْ أستأمن به.
فقال عمر له: إِنّي قاتلك.
فقال: قد أمنتني.
فقال: كذبت.
قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين قد أمنته.
فقال عمر: يا أنس، أنا أُؤمن قاتل مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك!! ولله لتأتّين
بمخرج أو لأعاقبنّك.
قال: قلتَ له: لا بأس عليك حتى تخبرني، ولا بأس عليك حتى تشربه...
وقال له من حوله مثل ذلك...
فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، واللّه لا أنخدع إِلاّ أنْ تسلم فأسلم(5).
2 - ما لا يقبل في نقض العهود:
إِنّ قبح نقض العهد الشناعة بحيث لا احداً على استعداد لأن يتحمل مسؤوليته بصراحة إلاّ النادر من الناس حتى أن ناقض العهد يلتمس لذلك اعذاراً وتبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته.
وقد ذكرت لنا الآيات أعلاه نموذجاً لذلك... فبعض المسلمين يتذرعون بحجج واهية ككثرة الأعداء وقلة المؤمنين للتنصل من عهودهم مع اللّه والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتكون مواقفهم متزلزلة، في حين أنّ الأكثرية من حيث العدد لا تمثل القدرة والقوة في واقع الحال، وانتصار القلّة المؤمنة على الكثرة غير المؤمنة من الشواهد المعروفة في تأريخ البشرية، ثمّ إِنّ حصول القدرة والقوة للأعداء - على فرض حصولها - لا تسوغ لأن تكون مبرراً مقبولا لنقض العهد، ولو دققنا النظر في الإمر لرأينا في واقعه أنّه نوع من الشرك والجهل باللّه عزَّوجلّ.
وقد تجسّد هذا الموضوع بعينه في عصرنا الحاضر ولكنْ بصورة أُخرى... فقسم من الدول الإسلامية الصغيرة في الظاهر قد تنصلت عن أداء وظائفها في نصرة المؤمنين لخوفها من الدول الإِستعمارية الكبرى، فتقدم في حساباتها قدرة البشر الهزيلة على قدرة اللّه المطلقة، وتلتجيء إِلى غير اللّه وتخشى غيره، وتنقض عهدها مع بارئها، وكل ذلك من بقايا الشرك وعبادة الأصنام.
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص75.
2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 231.
3 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج20، ص104.
4 ـ مجمع البيان، ذيل تفسير الآية مورد البحث.
5 ـ قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.