الآيتان 19 - 20
﴿وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَـبُشْرَى هَـذَا غُلَـمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَـعَةً وَاللهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ19 وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس دَرَهِمَ مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّهِدِينَ20﴾
التّفسير
نحو أرض مصر:
قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرّةً، ولكنّه بإِيمانه بالله وسكينته المنبثقة عن الإِيمان شع في قلبه نور الأمل، وألهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمّل الوحدة الموحشة، وأن ينجح في هذا الإِمتحان.
ولكنّ... الله أعلم كم يوماً قضى يوسف في هذه الحالة؟
قال بعض المفسّرين: قضى ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومين.
وعلى كل حال تبلج النّور (وجاءت سيّارة)(1).
وانتخَبت منزلها على مقربة من الجُبّ، وطبيعي أنّ أوّل ما تفكر القافلة فيه - في منزلها الجديد - هو تأمين الماء وسد حاجتها منه (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه)(2).
فانتبه يوسف إلى صوت وحركة من أعلى البئر، ثمّ رأى الحبل والدلو يسرعان إلى النّزول، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الإِلهي وتعلق بالحبل بوثوق.
فأحسّ المأمور بالإِتيان بالماء أن الدلو قد ثقُلَ أكثر ممّا ينبغي، فلمّا سحبه بقوة إلى الأعلى فوجىء نظره بغلام كأنّه فلقة قمر، فصرخ وقال: (يا بشرى هذا غلام).
وشيئاً فشيئاً سرى خبر يوسف بين جماعة من أهل القافلة، ولكن من أجل أن لا يذاع هذا الخبر وينتشر، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر، أخفوه (وأسرّوه بضاعة)(3).
وبالطبع هناك احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة منها أن الذين عثروا على يوسف أسرّوه وأخفوا خبره، وقالوا: هذا متاع لأصحاب هذا الجبّ أودعوه عندنا لنبيعه في مصر.
ومنها أن أحد إِخوة يوسف كان بين الحين والحين يأتي إلى الجبّ ليطلع على يوسف ويأتيه بالطعام وحين اطلع إِخوة يوسف على ما جرى أخفوا علاقتهم الأخوية بيوسف وقالوا: هذا غلامنا فرّ من أيدينا واختفى هنا، وهددوا يوسف بالموت إِذ كشف الستار عن الحقيقة.
ولكن التّفسير الأوّل يبدو أقرب للنظر.
وتقول الآية في نهايتها: (والله عليم بما كانوا يعملون) وبالرغم من اختلاف المفسّرين في من هم الذين شروا يوسف بثمن بخس، وقول بعضهم: هم إِخوة يوسف، ولكن ظاهر الآيات هو من كان في القافلة، وقد تمّ البحث عن إِخوته في نهاية الآية التي سبقت هذه الآيات، وجميع الضمائر في الجُمَل (أرسلوا واردهم)و(أسروه بضاعة) تعود على من كان في القافلة.
هنا يبرز هذا السؤال وهو: لِمَ باعوا يوسف الذي كان يعدّ - على الأقل - غلاماً ذا قيمة بثمن قليل، أو كما عبّر عنه القرآن (وشروه بثمن بخس)...؟
ولكن هذا أمر مألوف فإنّ السُراق أو أُولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمّة دون أي تعب ونصب يبيعونها سريعاً لئلا يطلع الآخرون.
ومن الطبيعي أنّهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غال.
و"البخس" في الأصل معناه تقليل قيمة الشيء ظلماً، ولذلك فإنّ القرآن يقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(4).
ثمّ إنّ هناك اختلافاً آخر بين المفسّرين في الثمن الذي بيع به يوسف، وكيف قُسّم بينهم؟ فقال البعض: عشرون درهماً، وقالت طائفة: اثنان وعشرون، ومع ملاحظة أنّ الباعة كانوا عشرين يتّضح سهم كل منهم، وكم هو زهيد!... وتقول الآية: (وكانوا فيه من الزاهدين).
وفي الحقيقة إِنّ هذه الجملة في حكم بيان العلة للجملة المتقدمة، وهي إِشارة إلى أنّهم باعوا يوسف بثمن بخس، لأنّهم لم يرغبوا في هذه المعاملة ولم يعتنوا بها.
وهذا البيع البخس إِمّا لأنّ أهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس، والإِنسان إِذا اشترى شيئاً رخيصاً باعه رخيصاً عادةً، أو إِنّهم كانوا يخافون أن يفتضح سرّهم ويجدون من يدّعيه، أو من جهة أنّهم لم يجدوا في يوسف أثراً للغلام الذي يباع ويُشترى، بل وجدوا فيه آثار الحرّية واضحة في وجهه، ومن هنا فلا البائعون كانوا راغبين ببيعه ولا المشترون كانوا راغبين بشرائه.
1- سفينة البحار، مادة: كتم.
2- "العصبة" معناها الجماعة المتفقون على الأمر، وهذه الكلمة معناها الجمع إِلاَّ لا مفرد لها من جنسها.
3- مقتبس من تفسير المنار في تفسير الآية.
4- أصول الكافي، ج 2، ص 307.