الآيات 1 - 3

﴿الر تِلْك ءَايَـتُ الْكِتَـبِ الْمُبِينِ1 إِنَّآ أَنزَلْنَـهُ قُرْءَناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ2 نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَـفِلِينَ3﴾

التّفسير

أحسن القصص بين يديك:

تبدأ هذه السورة بالحروف المقطعة "ألف. لام. راء"

وهي دلالة على عظمة القرآن، وإِنّ تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من أبسط الأجزاء، وهي حروف الهجاء "ألف - باء... الخ" وقد تحدثنا عن الحروف المقطعة في القرآن - حتى الآن - في ثلاثة مواضع "بداية سورة البقرة، وآل عِمران، والأعراف" بقدر كاف... فلا ضرورة للتكرار، وأثبتنا دلالتها على عظمة القرآن.

وربّما كان لهذا السبب أن تأتي الإِشارة - بعد هذه الحروف المقطعة مباشرةً - إلى بيان عظمة القرآن في هذه السورة، فتقول: (تلكَ آيات الكتاب المبين).

وممّا يستلفت النظر أنّه اُستُفيد من اسم الإِشارة "تلك" في هذه الآية للبعيد، نظير ما جاء في بداية سورة البقرة وبعض السور القرآنية الأُخرى.

وقد قلنا: إِنّ مثل هذه التعبيرات جميعاً يشار بها إلى عظمة هذه الآيات، أي أنّها بدرجة من الرفعة والعلوّ كأنّها في نقطة بعيدة لا يمكن الوصول إِليها ببساطة، بل بالسعي والجدّ المتواصل... فهي في أوج السّماوات وفي أعالي الفَضاء اللامتناهي، لا أنّها مطالب ومفاهيم رخيصة يحصل عليها الانسان في كل خطوة.

ثمّ يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول: (إِنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).

فالهدف إِذن ليس القراءة أو التلاوة أو التيمّن أو التبرك بتلاوة هذه الآيات فحسب، بل الهدف الأساسي هو الإِدراك... الإِدراك القوي الذي يدعو الإِنسان إلى العمل بجميع وجوده.

وأمّا سرّ كون القرآن عربياً فهو بالإِضافة إلى أنّ اللغة العربية واسعة كما يشهد بذلك أهل المعرفة باللغات المختلفة من العالم، بحيث تستطيع أن تكون ترجماناً للسان الوحي، وأن تبيّن المفاهيم الدقيقة لكلام الله سبحانه، فمن المسلم به - بعد هذا - أنّ نور الإِسلام بزغ في جزيرة العرب التي كانت منطلقاً للجاهلية والظلمة والتوحّش والبربرية، ومن أجل أن يجمع أهل تلك المنطقة حول نفسه فينبغي أن يكون القرآن واضحاً مشرقاً، ليُعلّم أهل الجزيرة الذين لاحظ لهم من الثقافة والعلم والمعرفة، ويخلق بذلك مركزاً محورياً لانتشار هذا الدين إلى سائر نقاط العالم.

وبطبيعة الحال فإنّ القرآن بهذه اللغة "العربيّة" لا يتيسّر فهمه لجميع الناس في العالم (وهذا شأن أية لغة أُخرى) لأنّنا لا نملك لغة عالمية ليفهمها جميع الناس، ولكن ذلك لا يمنع من أن يستفيد من في العالم من تراجم القرآن، أو أن يطلعوا تدريجاً على هذه اللغة ليتلمسوا الآيات نفسها ويدركوا مفاهيم الوحي في طيّات هذه الألفاظ.

وعلى كل حال فالتعبير بكون القرآن عربياً - الذي تكرر في عشرة موارد من القرآن - جواب لأولئك الذين يتهمون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه تعلم القرآن من أعجمي، وأنّ محتوى القرآن مستورد وليس وحياً إِلهياً.

وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمناً وظيفةً مفروضة على جميع المسلمين، وهي أن يسعوا جميعاً إلى معرفة اللغة العربية وأن تكون اللغة الثانية إلى جانب لغتهم، لأنّها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإِسلام.

ثمّ يقول سبحانه: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إِليك هذا القرآن وإِن كنت من قبله لمن الغافلين).

يعتقد بعض المفسّرين أنّ (أحسن القصص) إِشارة إلى مجموع القرآن، وأنّ جملة (بما أوحينا إِليك هذا القرآن) قرينة على ذلك.

والقصّة هنا ليست بمعنى سرد الحكاية، بل المراد معناها "الجذري" في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء.

وبما أنّ أي موضوع - حين يشرح ويفصّل - يبيّن بكلمات متتابعة، فلذلك يطلق عليه قصّة أيضاً.

وعلى كل حال فإنّ الله سبحانه عبّر بـ(أحسن القصص) عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح، وأفصح الألفاظ وأبلغها، مقرونةً بأسمى المعاني وأدقّها، بحيث يبدو ظاهرهُ عذباً جميلا، ومن حيث الباطن فمحتواها عظيم.

ونشاهد في روايات متعددة أنّ هذا التعبير استعمل في مجموع القرآن، رغم أنّ هذه الرّوايات لم ترد في تفسير هذه الآية - محل بحثنا ـ.

فمثلا نقرأ حديثاً نقله علي بن إِبراهيم عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "إِنّ أحسن القصص هذا القرآن"(1).

كما نقل في روضة الكافي عن خُطبة لأمير المؤمنين قوله: "إِن أحسن القصص وأبلغ الموعظة وأنفع الذكر كتاب الله"(2).

ولكنّ ارتباط الآيات المقبلة التي تبيّن قصّة يوسف (عليه السلام) مع هذه الآية - محل البحث - بشكل يشدّ ذهن الإِنسان إلى هذا المعنى، وهو أنّ الله عبر عن قصّة يوسف بـ(أحسن القصص) وربّما لا ينقدح في أذهان الكثيرين ممن يطالعون بداية آيات هذه السورة غير هذا المعنى.

وقلنا مراراً أنّه لا مانع من أن تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعاً... فالقرآن هو أحسن القصص بصورة عامّة، وقصّة يوسف هي أحسن القصص بصورة خاصّة.

ولم لا تكون هذه القصّة أحسن القصص، مع أنّها ترسم في فصولها المثيرة أسمى دروس الحياة؟!

فنحن نشاهد حاكمية إِرادة الله على كل شيء هذه القصّة، وننظر بأعيننا المصير الأسود الذي انتهى إِليه الحُسّاد وما رقموه على الماء من خِطط.

كما تتجسم من خلال سطورها الذلةُ في الإِبتذال وعدم العفة، والعظمة في التقوى ومنظر الصبيّ وهو وحيد في قعر الجبّ، وفي مشهد آخر نراه يقضي الليالي والأيّام دون ذنب في حفرة السجن المظلم، ثمّ انبثاق نور الأمل من خلف حجب اليأس والظّلمات، ثمّ نشاهد بعد ذلك حكومته العظيمة الواسعة نتيجة دراسته وأمانته.

كل هذه المشاهد تتجلّى للقارىء لهذه القصّة بشكل رتيب.

لحظات وبسبب رؤيا يتحول مصير أُمّة... إنقاذ اُمّة ومجتمع بشري من الهلكة على يد قائد إِلهي متيقظ... وعشرات الدروس الأُخرى - الكبيرة - التي تلوح في هذه القصّة، فلم لا تكون هذه القصّة أحسن القصص؟!

غاية ما في الأمر أنّه لا تكفي أن تكون قصّة يوسف وحدها هي أحسن القصص، بل المهم أن تكون فينا الجدارة لأنّ نفهم هذا الدرس العظيم وأن نعرف مكانه من نفوسنا.

فكثيرٌ مِنَ الناس لا يزال ينظر إلى قصّة يوسف (عليه السلام) على أنها حادثة عشق طريف، ومثله كمثل الدابّة التي يلوح لها البستان النضر المليء بالأزهار، إِلاّ أنّها تراه حفنة من "العلف" تسدُّ جوعها:

وما يزال الكثير من الناس يضفي على القصّة افرازات خيالية كاذبة ليحرّف القصّة عن واقعها... وهذا من عدم اللياقة وفقدان الجدارة وعدم قابلية المحل، وإِلاّ فإنّ أصل القصّة جمع كل أنواع القيم الإِنسانية العليا في نفسه.

وسنرى في المستقبل - بإِذن الله - أنّه لا يمكن تجاوز فصول هذه القصّة الجامعة والجميلة وكما يقول الشاعر في هذه القصّة:

يَسكرُ من عطر الزهور الفتى ***** حتى يُرى مفتقداً ثوبه!

أثر القصّة في حياة الناس:

مع ملاحظة أنّ القسم المهمّ من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للأُمم السابقة وقصص الماضين، فقد يتساءل البعض: لِمَ يحملُ هذا الكتاب التربوي كل هذا "التأريخ" والقصص؟!

وتتضح العلة الحقيقية للموضوع بملاحظة عدّة نقاط:

1 - إِنّ التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة، وما رسمه الإِنسان في ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ.

وبملاحظة أنّ أكثر المعلومات البشرية توافقاً مع الواقع والحقيقة هي التي تحمل جانباً حسيّاً، فإنّ دور التاريخ في إِظهار الواقعيّات الحياتية يمكن دركه جيداً.

فالإِنسان يرى بأُم عينيه الهزيمة المُردية - لأمّة ما - نتيجة اختلافها وتفرقها، كما يرى النجاح المشرق في قوم آخرين في ظل اتّحادهم وتوافقهم.

فالتاريخ يتحدّث بلغة - من دون لسان - عن النتائج القطعية وغير القابلة للإِنكار للتطبيقات العملية للمذاهب والخطط والبرامج عند كل قوم.

وقصص الماضين مجموعة من أكثر التجارب قيمة.

ونعرف أنّ خلاصة الحياة ومحصولها ليس شيئاً سوى التجربة.

والتاريخ مرآة تنعكس عليها جميع ما للمجتمعات الإِنسانية من محاسن ومساوىء ورقي وانحطاط والعوامل لكلّ منها.

وعلى هذا فإِنّ مطالعة تاريخ الماضين تجعل عمر الإِنسان طويلا بقدر أعمارهم حقّاً، لأنّها تضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه واختياره.

ولهذا يقول الإِمام علي (عليه السلام) في حديثه التاريخي خلال وصاياه لولده الحسن المجتبى في هذا الصدد: "أي بني إِني وإِن لم أكن عمّرت عُمْرَ من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عُدت كأحدهم، بل كأنّي بما إنتهى إلي من أُمورهم قد عمرت من أوّلهم إلى آخرهم"(3).

والتاريخ الذي نتحدث عنه طبعاً هو التاريخ الخالي من الخرافات والأكاذيب والتملّقات والتحريفات والمسوخات.

ولكن - وللأسف - مثل هذا النوع من التاريخ قليل جداً.

ولا ينبغي أن نبعد عن النظر ما للقرآن من أثر في بيان "نماذج" من التاريخ الأصيل وإِراءتها.

التاريخ الذي ينبغي أن يكون كالمرآة الصافية لا المقعّرة.

التاريخ الذي لا يتحدث عن الوقائع فحسب، بل يصل إلى الجذور ويسترشف النتائج.

فمع هذه الحال لِمَ لا يستند القرآن - الذي هو كتاب تربوي عال في فصوله -

على التاريخ ويأتي بالشواهد والأمثال من قصص الماضين؟!

2 - ثمّ بعد هذا فإنّ للتاريخ والقصّة جاذبية خاصّة، والإِنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.

ولذلك فإنّ التاريخ والقصّة يشكلان القسم الأكبر من آداب العالم وآثار الكتّاب.

وأحسن الآثار التي خلّفها الشعراء والكتاب الكبار سواء كانوا من بلاد العرب أو من فارس أو من بلاد أُخرى هي قصصهم.

فأنت تلاحظ "الكلستان" - لسعدي و"الشاهنامة" لفردوسي و"الخمسة" للنظامي وكذلك آثار "فيجتور هيجو" الفرنسي و"شكسبير" الإِنجليزي و"غوتِه" الألماني جميعها كتبت على هيئة قصص جذابة".

والقصّة سواء كُتبت نثراً أو شعراً، أو عُرضت على شاشة المسرح أو بواسطة الفيلم السينمائي، فإنّها تترك أثراً في المشاهد والمستمع دونها أثر الاستدلالات العقلية في مثل هذا التأثير.

والعلّة في ذلك قد تكون أنّ الإِنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقلياً ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.

وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحسّ في نفسها جانباً عقلياً، كانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.

ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بيان الإِستدلال العقلي يستمد المفكرين في المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة وتوغل في البعد العقلي من الأمثلة الحسيّة، وأحياناً يكون للمثال المناسب والمؤثر في الإِستدلال قيمة مضاعفة، ولذلك فإنّ العلماء الناجحين هم أُولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.

ولم لا يكون الأمر كذلك، والإِستدلالات العقلية هي حصيلة المسائل الحسّية والعينيّة والتجريبيّة؟!

3 - القصّة والتاريخ مفهومان عند كل أحد، على خلاف الإِستدلالات العقلية، فإنّ الناس في فهمها ليسوا سواسية... وعلى هذا فإنّ الكتاب الشامل الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الأُمّي والمتوحش... إلى الفيلسوف والمفكر الكبير، يجب أن يكون معتمداً على التاريخ والقصص والأمثلة.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية، ولا سيّما إِذ التفتنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ القرآن لا يذكر الوقائع التاريخية في أيّ مجال بشكل عار من الفائدة، بل يذكر معطياتها بشكل يُنتفع بها تربوياً، كما سنلاحظ "النماذج" والأمثلة في هذه السورة.


1- المصدر السّابق.

2- المصدر السّابق.

3- المصدر السّابق.