الآيتان 116 - 117
﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاَْرْضِ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) ﴾
التّفسير
عامل الإِنحراف والفساد في المجتمعات:
من أجل إِكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد، وهو أنّه مادام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً ودينياً، فإِنّ هذا المجتمع سيكون مصوناً من الزيغ والانحراف.
لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته، وبقي المجتمع دون مدافع أمام عوامل الفساد، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.
الآية الأُولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع البلاء قائلة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ينهون عن الفساد) ثمّ تستثني جماعة فتقول: (إِلاّ قليلا ممن أنجينا).
هذه الجماعة القليلة وإِن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكنّها كحال لوط (عليه السلام) وأُسرته الصغيرة، ونوح والمعدودين ممن آمن به، وصالح وجماعة من أتباعه، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإِصلاح العام والكلي في المجتمع.
وعلى كل حال فإنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم، وكما تقول الآية: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).
وللتأكيد على هذه الحقيقة، تأتي الآية الثّانية لتقول: إِنّ هذا الذي ترون من إِهلاك الله للأُمم، إِنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم (وما كان ربُّك ليهلك القرى بظُلم وأهلها مصلحون).
واحياناً يسود الظلم والفساد في المجتمع، لكن المهم أنّ الناس يشعرون بالظلم والفساد وهم في طريق الإِصلاح، وبهذا الشعور والإِحساس والتحرك بخطوات في طريق الإِصلاح يمهلهم الله، ويقرّ لهم قانون الخلق حق الحياة.
ولكن هذا الإِحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتاً، وأخذ الفساد والظلم في الإِنتشار بكل مكان فإنّ قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في الحياة، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير... في البدن قوّة ومناعة كريّات الدم البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء أو الغذاء أو الماء أو الجروح الجلدية الخ... وهذه الكُريّات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إِذ تقف بوجه المكروبات و الجراثيم فتبيدها، أو على الأقل تحدّ من انتشارها ونموّها.
وبديهي أن هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود، لو أضربت يوماً عن العمل وبقي البدن دون مدافع، فسيكون ميداناً لهجوم الجراثيم الضارّة بحيث تسرع أنواع الأمراض إلى البدن.
وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة، فلو ارتفعت هذه القوّة المدافعة عنها وهي ما عبّر عنه القرآن بـ(أولوا بقيّة) فإن جراثيم الأمراض الإِجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط المجتمع صريع الامراض المختلفة.
إِن أثر (أُولوا بقيّة) في بقاء المجتمع حساس للغاية، حتى يمكن القول: إنّ المجتمع من دون "أُولي بقية" يُسلب حق الحياة، ومن هنا فقد وردت الإِشارة إِليهم في الآية المتقدمة.
من هم (أُولوا بقيّة)؟
كلمة "أولوا" تعني الأصحاب، وكلمة "بقيّة" معناها واضح أي ما يبقى، ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى "أولو الفضل" لأنّ الإِنسان يدخر الأشياء النفيسة والجيّدة لتبقى عنده، فالمصطلح (أولوا بقيّة) يحمل في نفسه مفهوم الخير والفضل.
ونظراً لأنّ الضعفاء - عادةً - يرجّحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة الإِجتماعية، أو يصيبهم الفناء، ولا يبقى في ميدان المواجهة إِلاّ من يتمتع بقوّة فكرية أو جسدية، وبذلك يبقي الأقوياء فقط، ومن هذا المنطلق أيضاً تقول العرب في أمثالها: في الزوايا خبايا... وفي الرجال بقايا.
كما جاءت كلمة "بقيّة" في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا المفهوم، حيث نقرأ في قصّة طالوت وجالوت (إِنَّ آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم وبقية ممّا ترك آل موسى)(1).
وقرأنا أيضاً قصّة شعيب (في هذه السورة) مخاطباً قومه: (بقية الله خير لكم إِن كنتم مؤمنين)(2).
وحيث نجد في قسم من التعبيرات إطلاق (بقية الله) على "المهدي الموعود" (عليه السلام) فهو إِشارة إلى هذا الموضوع أيضاً، لأنّه وجود ذو فيض وذخيرة إِلهية كبرى، وهو مُعَدّ ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم كله.
ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الأجلاّء الافذاذ والمكافحين للفساد، والمصطلح عليهم بـ(أولوا بقيّة) على المجتمعات البشرية لأنّهم رمز لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.
المسألة الأُخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة أنّها تقول: (وما كان ربّك ليُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
وبملاحظة التفاوت بين كلمتي "مصلح" و"صالح" تتجلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الصلاح وحده لا يضمنُ البقاء، بل اذا كان المجتمع فاسداً ولكن أفراده يسيرون باتجاه اصلاح الأُمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة أيضاً.
فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإنّ من سنةِ الخلقِ أن يحرم ذلك المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.
وبتعبير آخر: متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه، فهذا المجتمع يبقى، ولكن إِذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.
المسألة الدقيقة الأُخرى: إنّ واحداً من أسس الظلم والإِجرام - كما تشير إِليه الآيات المتقدمة - هو اتباع الهوى وعبادة اللّذة وحبّ الدنيا، وقد عبّر القرآن عن كل ذلك بـ"الترف".
فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الإِنحرافات في المجتمعات المرفهة، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إِعطاء القيم الإِنسانية الأصيلة حقّها ودرك الواقعيات الإِجتماعية، ويغرقها في العصيان والآثام.
1- نهج البلاغة، الخطبة 126.
2- نور الأبصار للشبلنجي، ص 140 وكتاب الغدير، وكتب اُخرى.