الآيات 29 - 31

﴿وَيَقَوْمِ لآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ أَمَنُواْ إِنَّهُم مُّلَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَكنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ29 وَيَقُوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ30 وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلِّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذاً لَّمِنَ الظَّلِمِينَ31﴾

التّفسير:

ما أنا بطارد الذين آمنوا:

في الآيات المتقدمة رأينا أنّ قوم نوح "الأنانيين" كانوا يحتالون بالحجج الواهية والاشكالات غير المنطقية على نوح وأجابهم ببيان جليّ واضح والآيات محل البحث تتابع ما ردّ به نوح (ع) على قومه المنكرين.

فالآية الأُولى التي تحمل واحداً من دلائل نبوة نوح، ومن أجل أن تنير القلوب المظلمة من قومه تقول على لسان نوح: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا) فأنا لا أطلب لقاء دعوتي مالا أو ثروة منكم، وإِنّما جزائي وثوابي على الله سبحانه الذي بعثني بالنّبوة وأمرني بدعوة خلقه إِليه (إِن أجري إلاّ على الله).

وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء أنّني لا أبتغي هدفاً مادياً من منهجي هذا، ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه، ولا يستطيع مُدّع كاذب أن يتحمل الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.

وهذا معيارٌ وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص ويهدفون الى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويعقب نوح (ع) بعد ذلك في ردّه على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة: (وما أنا بطارد الذين آمنوا) لأنّهم سيلاقون ربّهم ويخاصمونني في الدار الآخرة (إنّهم ملاقو ربّهم) (1).

ثمّ تُختتم الآية ببيان نوح لقومه بأنّكم جاهلون (ولكنّي أراكم قوماً تجهلون) وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري،وتزعمون أنّ هؤلاء المؤمنين العُفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه!

هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم.

ثمّ أنتم تتصورون - بجهلكم - أن يكون النّبي من الملائكة، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحسّ بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.

وفي الآية التي بعدها يقول لهم موضحاً: إِنّني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا (ويا قوم من ينصرني من الله إِن طردتهم).

فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن، إِذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم، ولا أحدَ هناك يستطيع أن يدافع عنّي ويخلصني من عدل الله، ولربّما أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا، أم أنّكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة عينها (أفلا تذكّرون).

والفرق بين "التفكر" و"التذكّر" هو أنّ التفكر في حقيقته إِنّما يكون لمعرفة شيء لم تكن لنا فيه خبرة من قبل، وأمّا التذكر فيقال في مورد يكون معروفاً للإنسان قبل ذلك، كما في المعارف الفطريّة.

والمسائل التي كانت بين نوح (ع) وقومه هي أيضاً من هذا القبيل، مسائل يعرفها الإِنسان ويدركها بفطرته وتدبّره، ولكن تعصب قومه وغرورهم وغفلتهم وأنانيتهم ألقت عليها حجاباً وغشاءً فكأنّهم عموا عنها.

وآخر ما يجيب به نوح قومه ويرِدّ على إِشكالاتهم الواهية..

إِنّكم إِذا كنتم تتصورون أن لي امتيازاً آخر غير الإِعجاز الذي لديّ عن طريق الوحي فذلك خطأ، وأقول لكم بصراحة: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) ولا أستطيع أن أحقق كل شيء أريده وكل عمل أطلبه، حيث تحكي الآية عن لسانه (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) ولا أقول لكم إِنّني مطلع على الغيب (ولا أعلم الغيب) ولا أدعي أنّني غيركم كأنْ أكون من الملائكة مثلا (ولا أقول إِنّي ملك) فهذه الإِدّعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدّعون الكذَبَة، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون، لأنّ خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القُدسيّة وحدها، ولا ينسجم المَلَك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضاً.. فكل من يدعي واحداً من هذه الأُمور الثلاثة المتقدمة - أو جميعها - فهو كاذب.

ومثل هذا التعبير ورد في نبي الإِسلام (ص) أيضاً كما نلاحظ ذلك في الآية(50) من سورة الأنعام حيث تقول الآية مخاطبة النّبي أن يبلغ قومه بذلك (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي مَلَك إن اتّبع إلاّ ما يوحى إِلىّ) فانحصَار امتياز نبي الإِسلام في مسألة "الوحي" ونفي الأُمور الثلاثة الأُخرى يدل على أنّ الآيات التي تحدثت عن نوح كانت تستبطن هذا المعنى أيضاً وإِن لم تصرّح بذلك بمثل هذا التصريح!.

وفي ذيل الآية يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً..) بل على العكس تماماً، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإِن كانوا عُفاة لخلّو أيديهم من المال والثروة..

فأنتم الذين تحسبون الخير منحصراً في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة ومعناها تماماً.

وعلى فرض صحة مُدّعاكم أراذل و"أوباش" فـ (الله أعلم بما في أنفسهم).

أنا الذي لا أرى منهم شيئاً سوى الصدق والإِيمان يجب علىَّ قبولهم، لأنّي مأمور بالظاهر، والعارف باسرار العباد هو الله سبحانه، فإِن عملت غير عملي هذا كنت آثماً (إِنّي إِذاً لمن الظالمين).

ويرد هذا الإِحتمال أيضاً في تفسير الجملة الأخيرة لأنّها مرتبطة بجميع محتوى الآية، أي إِذا كنت أدعي علم الغيب أو أنّي ملك أو أن عندي خزائن الله أو أن اطرد المؤمنين، فسأكون عند الله وعند الوجدان في صفوف الظالمين.

ملاحظات

1 - أولياء اللّه ومعرفة الغيب

الإِطلاع على الغيب مطلقاً - كما أشرنا إِليه مراراً - وبدون أي قيد وشرط هو من خصوصيّات الله سبحانه، ولكنّه يُطلع أنبياءَه وأولياءه على الغيْب بقدر ما يراه مصلحة كما نرى الإِشارة إِليه في الآيتين (26 و 27) من سورة الجن (عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلاّ من ارتضى من رسول فإِنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً).

فعلى هذا لا منافاة ولا تضادّ بين هذه الآيات - محل البحث - التي تنفي أن يعلم الأنبياء الغيب، وبين الآيات أو الرّوايات التي تنسب إِلى الأنبياء أو الأئمّة العلم ببعض الغيب.

فمعرفة أسرار الغيب والإِطلاع عليها من خصوصيّات الله بالذات، وما عند الآخرين فبالعَرَض و"بالتعليم الإِلهي"، ولذلك فإِنّ علم الغيب عند غير الله محدود بالحدود التي يريدها الله سبحانه (2).

2 - مقياس معرفة الفضيلة:

مرّة أُخرى نواجه الواقعية في هذه الآيات، وهي أن أصحاب الثروة والقوة وعبيد الدنيا المادييّن يرون جميع الأشياء من خلال نافذتهم المادية..

فهم يتصورون أنّ الإِحترام والشخصيّة هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحيثيات فحسب، فلا ينبغي التعجب من أن يكون المؤمنون الصادقون الذين خلت أيديهم من المال والثروة في قاموسهم "أراذل" وينظرون إِليهم بعين الإِحتقار والإِزدراء.

ولم تكن هذه المسألة منحصرة في نوح وقومه، إِذ كانوا يصفون المؤمنين المستضعفين حوله - ولا سيما الشباب الوعي منهم - بأنّ عقولهم خالية وأفكارهم قاصرة، وكأنّهم لا قيمة لهم.

فالتاريخ يكشف أن هذا المنطق كان موجوداً في عصر الأنبياء الآخرين وعلى الأخصّ في زمن نبي الإِسلام (ص) والمؤمنين الأوائل.

كما نرى الآن مثل هذا المنطق في عصرنا وزماننا، فالمستكبرون الذين يمثلون فراعنة العصر - إِعتماداً على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشيطانية - يتهمون"المؤمنين" بمثل هذا الإِتهام..

فكأنّما يعيد التاريخ نفسه وصوره على أيدي هؤلاء ومخالفيهم.. ولكن حين يتطهر المحيط الفاسد بثورة إِلهية.. فهذه المعايير التي تقاس بها الشخصيّة والعناوين الموهومة الأُخرى تُلقى في مزابل التاريخ، وتحل محلّها المعايير الإِنسانية الأصيلة..

المعايير المتولدة من صميم حياة الإِنسان والتي تكون لبنات تحتية للبناء الفوقاني للمجتمع السليم الحرّ، حيث يستلهم منها قِيَمهُ، كالإِيمان والعلم الإِيثار والمعرفة والعفو والتسامح والتقوى والشهامة والشجاعة والتجربة والذكاء والإِدارة والنظم وما أشبهها..

3 - معنى علم الغيب في القرآن

هناك بعض المفسّرين كصاحب "المنار" حين يصل إِلى هذه الآية يقول لمن يدعي أن علم الغيب لا يختصّ بالله، أو يطلب حلّ المشاكل من سواه، يقول في جملة قصيرة: إِنّ هذين الأمرين - علم الغيب وخزائن الله - قد نفاهما القرآن عن الأنبياء، لكن أصحاب البدع من المسلمين وأهل الكتاب يثبتونهما للأولياء والقديسين (3).

إِذا كان مقصودُه نفي علم الغيب عنهم مطلقاً ولو بتعليم الله، فهذا مخالف لنصوص القرآن المجيد الصريحة، وإِذا كان مقصوده نفي التوسّل بأنبياء الله وأوليائه بالصورة التي نطلب من الله بشفاعتهم أن يحلّ مشاكلنا، فهذا الكلام مخالف للقرآن والأحاديث القطعيّة المسلّم بها عن طرق الشيعة وأهل السنّة أيضاً.

لمزيد من الإِيضاح في هذا المجال يراجع ذيل الآية (34) من سورة المائدة.


1- وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة، وهو أنّ مراد نوح(عليه السلام): إنّ الذين آمنوا بي إذا كانوا كاذبين في الباطن فإنّهم سيلاقون ربّهم يوم القيامة وهو يحاسبهم، ولكن الإحتمال المذكور أقرب للصحة.

2- لمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (50) من سورة الأنعام وذيل الآية (188) من سورة الأعراف.

3- المنار، ج12، ص 67.