الآيات 90 - 93

﴿وَجَوَزْنَا بِبَنىِ إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ أَمَنتُ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِى ءَاَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ90 ءَآلْئَنَ وَقدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ91 فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّن النَّاسِ عَنْ ءَايَتِنَا لَغَفِلُونَ92 وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَائيلَ مُبَؤَّأَ صِدْق وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ93﴾

التّفسير

الفصل الأخير من المجابهة مع الظّالمين:

هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إِسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة، لكنّها دقيقة وواضحة - كما هو دأب القرآن - وتركت المطالب الأُخرى تُفهم من الجمل السابقة واللاحقة.

فتقول أوّلا: إِنّنا جاوزنا ببني إِسرائيل البحر - وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته - أثناء مواجهتهم للفراعنة، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء: (وجاوزنا ببني إِسرائيل البحر) إلاّ أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إِسرائيل: (فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً).

"البغي" يعني الظلم، "والعدو" بمعنى التعدي، أي إِنّ هؤلاء إِنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم، أي على بني إِسرائيل.

جملة "فأتبعهم" توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إِسرائيل طوعاً، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى، إلاّ أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.

أمّا كيفية عبور بني إِسرائيل للبحر، وأي إِعجاز وقع في ذلك الحين، فإِنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (63) من سورة الشعراء، إِن شاء الله تعالى.

على كل حال، فإِنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإِيمان: (حتى إِذ أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنوا إِسرائيل) فلست مؤمناً بقلبي فقط، بل إِنّي من المسلمين عملياً: (وأنّا من المسلمين).

ولما تحققت تنبؤات موسى (ع) الواحدة تلو الأُخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته، اضطر إِلى إِظهار الإِيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إِسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول: آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل!

إِلاّ أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإِيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت، إِيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله، ولهذا فإِنّ الله سبحانه خاطبه فقال: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).

وقد قرأنا سابقاً في الآية (18) من سورة النساء: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إِلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة.

ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضاً في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم، مثل:

أتت وحياض الموت بيني وبينها ***** وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

لكن (فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة.

هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث أنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

اللطيف هنا، أنّ البدن في اللغة - كما قال الراغب في مفرداته - يعني الجسد العظيم - وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلىء الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!

إِلاّ أنّ البعض الآخر قالوا: إِنّ أحد معاني البدن هو الدرع، وهذا إِشارة إِلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.

هذه النقطة أيضاً تستحق الإِنتباه، وهي أنهم استفادوا من جملة "ننجيك" أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة "النجوة" تعني المكان المرتفع والأرض العالية.

والنقطة الأُخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة: (فاليوم ننجّيك) قد بدأت بفاء التفريع، ومن الممكن أن يكون ذلك إِشارة إِلى أن إِيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح، حتى لايكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!

ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينهاحيث حفظوه فيما بعد بالمومياء، أم لا؟

لايمكننا اثبات ذلك، إلاّ أنّ تعبير (لمن خلفك) يقوي هذا الإِحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الاجيال في المستقبل (فتدبر جيداً).

ويقول في نهاية الآية: إِنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإِنّ الكثير معرضون عنها (وإِنّ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون).

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إِسرائيل، والرجوع إِلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة، فتقول: (ولقد بوأنا بني إِسرائيل مبوأ صدق).

إِنّ التعبير بـ (مبوأ صدق) يمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إِسرائيل وأرجعهم إِلى الوطن الموعود، أو أنّ (مبوّأ صدق) إِشارة إِلى طهارة وقدسية هذه الأرض، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.

وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (25) - (28): (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناهما قوماً آخرين).

وقد جاء هذا المضمون في الآية (57) - (59) من سورة الشعراء، ونقرأ في آخرها: (وأورثناها بني إِسرائيل).

من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إِلى الشام، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: (ورزقناهم من الطيبات) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة، وكذلك أراضي الشام وفلسطين.

إلاّ أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة (فما أختلفوا حتى جاءهم العلم) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى، وأدلة صدق دعوته، إلاّ (أن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وإِذا لم يتذوقوا طعم عقاب الإِختلاف اليوم، فسيذوقونه غداً.

وقد احتمل - أيضاً - في تفسير هذه الآية، أن يكن المراد من الإِختلاف هو الإِختلاف بين بني إِسرائيل واليهود المعاصرين للنّبي (ص) في قبول دعوته، أي إِنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية، فإِنّهم اختلفوا، فآمن بعضهم، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته، وإِنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.

إِلاّ أنّ الإِحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.

كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إِسرائيل المليء بالعبر، والذي بُيّن ضمن آيات في هذه السورة، وما أشبه حال أُولئك بمسلمي اليوم، فإِنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة.

وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إِعجازية، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أُولئك المتجبرين، إلاّ أنّهم وللأسف الشديد، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإِسلام في جميع أرجاء العالم، فإِنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإِيجاد النفاق والإِختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر!

اللّهم نجّنا من كفران النعمة هذا.