الآيات 83 - 86
﴿فَمَآ ءَآمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْف مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلاءِيْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرعَوْنَ لَعَال فِى الأرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسرِفِينَ83 وَقَالَ مُوسَى يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ84 فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقُوْمِ الظَّلِمِينَ85 وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ86﴾
التّفسير
المرحلة الثّالثة:
عكست هذه الآيات مرحلة أُخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول: (فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه).
إِنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الامر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة: (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإِنّ فرعون لعال في الأرض وإِنّه لمن المسرفين).
وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟
وإِلى من يعود ضمير (من قومه) إِلى موسى أم فرعون؟
فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفراً قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا.
وهذا لا يناسب التعبير بـ (ذرية من قومه) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.
إِلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إِسرائيل، والضمير يعود إِلى موسى، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله، وحسب قواعد اللغة والنحو فإِنّ الضمير يجب أن يرجع إِليه.
ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول: (وقال موسى يا قوم...) أي إِنّه خاطب المؤمنين بـ "قومي".
الإِشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير، هو أنّ جميع بني إِسرائيل قد آمنوا بموسى، لا جماعة منهم.
إِلاّ أنّ هذا الإِيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إِليها، فإِضافة إِلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة، فإِنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأُمور المادية التي تدعو الكبار إِلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأُخرى، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.
بناءً على هذا، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إِلى موسى، وتعبير "الذريّة" يناسب هذا المعنى جدّاً.
هذا إِضافةً إِلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك، وكانوا ضعفاء وعاجزين، وهذا التعبير - كما نقل عن ابن عباس - في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول: اذهب وادعُ الأولاد، بالرغم من أنهم قد يكونون كباراً، وإِذا لم نتفق وهذا المعنى للآية، فإِنّ الإِحتمال الأوّل يبقى على قوته.
إِضافةً إِلى أن الذرية وإِن كانت تطلق عادة على الأولاد، إلاّ أنّها من ناحية الأصل اللغوي - كما يقول الراغب في المفردات - تشمل الصغير والكبير.
والملاحظة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة (أن يفتنهم) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإِرعاب والتعذيب، أو بمعنى آخر إِيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.
على كل حال، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم: (وقال موسى يا قوم إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إِن كنتم مسلمين).
إِنّ حقيقة التوكل هي إِلقاء العمل والتصرف في الأُمور على كاهل الوكيل، وليس معنى التوكل أن يترك الإِنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول: إِنّ الله معتمدي وكفى، بل معناه أن يبذل قصارى جهده، فإِذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه، فلا يدع للخوف طريقاً إِلى نفسه، بل يصمد أمامها بالتوكل والإِعتماد على لطف الله والإِستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية، ويستمر في جهاده المتواصل، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإِنّه لا يرى نفسه مستغنياً عن الله، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.
هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإِيمان والإِسلام، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء، وكل عسير مقابل إِرادته سهل يسير.
ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.
إِنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل: (فقالوا على الله توكلنا).
ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم: (ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين).
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأُولى بأنّه من (المسرفين) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم (الظالمين) ، وفي آخر آية بأنّهم من (الكافرين).
إِنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأن الإِنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإِسراف أوّلا، أي التعدي على الحدود، ثمّ الظلم، وينتهي عمله أخيراً إِلى الكفر والالحاد!