الآيات 59 - 61

﴿قُلْ أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْق فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلا قُلْ ءَآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ59 وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ60 وَمَا تَكُونُ فِى شَأْن وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَان وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَاب مُّبِين61﴾

التّفسير

هو الشاهد في كل مكان!

كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن، والموعظة الإِلهية والهداية والرحمة في هذا الكتاب السماوي، وتتحدث هذه الآيات عن قوانين المشركين المبتدعة والخرافية وأحكامهم الكاذبة، لأنّ الذي يؤمن بالله ويعلم أن كل المواهب والأرزاق منه، يجب أن يقبل هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ بيان حكم هذه المواهب من حيث الحلية والحرمة بيده، وإِنّ التدخل في هذا العمل بدون إِذنه عمل غير صحيح.

الآية الأُولى وجهت الخطاب إِلى النّبي (ص) وقالت: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا) إِذا أنّهم طبقاً لسننهم الخرافية حرموا قسماً من الدواب باسم "السائبة" و"البحيرة" و"الوصيلة (1) "، وكذلك حرّموا جزءاً من محاصيلهم الزراعية، وحرموا أنفسهم من هذه النعم الطاهرة المحلّلة، إِضافةً إِلى ذلك فإِن كون الشيء حراماً أو حلالا ليس مرتبطاً بكم، بل هو مختص بأمر الله خالق تلك الموجودات.

ثمّ تقول: (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) ، أي إِنّ لهذا العمل صورتين لا ثالث لهما: فأمّا أن يكون بإِذن الله، أو أنّه تهمة وافتراء، ولما كان الإِحتمال الأوّل منتفياً، فلم يبق إلاّ الثّاني.

الآن وقد أصبح من المسلم أنّ هؤلاء بهذه الأحكام الخرافية المبتدعة، إِضافةً إِلى أنّهم حُرموا من النعم الإِلهية، فإِنّهم قد افتروا على الساحة الإِلهية المقدسة، ولذلك تضيف الآية: (وما ظن الذي يفترون على الله الكذب يوم القيامة إِنّ الله لذو فضل على العالمين) ولذلك فإِنّه لسعة رحمته لا يعاقب هؤلاء فوراً على أعمالهم القبيحة.

إِلاّ أنّ هؤلاء بدل أن يستغلوا هذه الفرصة الإِلهية ويشكروا اللّه على ذلك وينيبوا إِليه، فإِنّ أكثرهم غافلون: (ولكن أكثر الناس لايشكرون).

ويحتمل في تفسير هذه الآية أيضاً، أن كون كل هذه المواهب والأرزاق - عدا الأشياء المضرة والخبيثة المستثناة - محللة هو بنفسه نعمة إِلهية كبرى، وإِنّ كثيراً من الناس بدل أن يؤدوا شكر هذه النعمة، فإِنّهم يكفرون بها، ويحرّمون أنفسهم من هذه النعمة بأحكامهم الخرافية وممنوعاتها.

وحتى لايتصور أحد أنّ هذه المهلة الإِلهية دليل على عدم إِحاطة علم الله سبحانه بكل أعمال هؤلاء، فإِنّ آخر آية من آيات البحث تبيّن هذه الحقيقة بأبلغ عبارة وتوضح أن الله مطلع على كل ذرات الموجودات في خفايا السماء والأرض، ومطلع على دقائق أعمال العباد، فتقول: (وماتكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إِذ تفيضون فيه) (2).

"الشهود" جمع شاهد، وهو في الأصل بمعنى الحضور المقترن بالمشاهدة بالعين أو القلب أو الفكر، والتعبير بالجمع إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه ليس وحده المراقب لأعمال البشر، بل إِنّ الملائكة المطيعين لأمره مطلعون أيضاً على كل هذه الأعمال وناظرون إِليها.

وكما أشرنا سابقاً، فإِنّ التعبير بصيغة الجمع في حق الله سبحانه مع أنّ ذاته المقدسة أوحدية من جميع الجهات، إِشارة إِلى عظمة مقامه، وأن له دائماً مأمورين مطيعين مستعدين لتنفيذ أمره والواقع فإِن الكلام ليس عن الله وحده، بل عنه وعن كل هؤلاء المأمورين المطيعين.

ثمّ تعقب الآية على مسألة اطلاع الله على كل شيء بتأكيد أكبر، فتقول: (وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إِلاّ في كتاب مبين).

"يعزب" مأخوذة من العزوب، وهو في الأصل بمعنى الإِبتعاد عن البيت والأهل في سبيل إِيجاد وتهيئة المراتع للأغنام والحيوانات، ثمّ استعملت بمعنى الغيبة والإِختفاء بصورة مطلقة.

"والذّرة" بمعنى الجسم الصغير جدّاً، ولذلك يقال للنمل الصغير: ذرة.

ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (40) من سورة النساء.

"الكتاب المبين" إِشارة إِلى علم الله الواسع، والذي يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

ملاحظات

1 - إِنّ الآيات أعلاه قد أثبتت ضمن عبارات قصيرة هذه الحقيقة، وهي أنّ حق التشريع مختص بالله، وكل من يقدم على مثل هذا العمل بدون إِذنه وأمره، فإِنّه يكون قد افترى على الله، لأنّ كل الهبات والارزاق تنزل من عنده، وإِنّ الله سبحانه هو المالك الأصلي لها في الحقيقة، وبناءً على هذا فإِنّ له الحق في أن يجعل بعضها مباحاً والبعض الآخر غير مباح.

ومع أنّ أوامره في هذا المجال تهدف الى نفع العباد وتكاملهم وليس له أدنى حاجة لهذا العمل، إلاّ أنّه على كل حال هو صاحب الإِختيار والتشريع، وقد يرى أنّ من المصلحة اعطاء أحد العباد كالنّبي (ص) حق هذا العمل في حدود معينة.

كما يستفاد من روايات متعددة - أيضاً - أنّ النّبي (ص) قد حرم بعض الأُمور أو أوجبها، والذي عبرت عنه الرّوايات بـ (فرض النّبي).

ومن الطبيعي أنّ كل أوامره ونواهيه في حدود ما خوله الله سبحانه من الصلاحيات، وحسب أمر الله.

إِنّ جملة (الله أذن لكم) دليل أيضاً على أن من الممكن أن يجيز الله أحداً بمثل هذه الإِجازة.

إِنّ هذا البحث مرتبط بمسألة "الولاية التشريعية"، والتي سنبيّنها بصورة أكثر تفصيلا في محل آخر إِن شاء الله تعالى.

2 - إِنّ تعبير الآيات أعلاه عن الرزق بالنزول - مع أنّنا نعلم أنّ المطر هو الوحيد الذي ينزل من السماء - إمّا لأنّ هذه القطرات المباركة تشكل الأساس لكل الأرزاق، أو لأنّ المراد هو "النزول المقامي" الذي أشرنا إِليه سابقاً، ومثل هذا التعبير يلاحظ في المكالمات اليومية، فمثلا إِذا صدر أمر من شخص كبير، أو هبة ما إِلى شخص صغير، فيقولون: إِنّ هذا الأمر صدر من الأعلى، أو أنّه وصلنا من فوق.

3 - لقد أثبت علماء الأصول بجملة (الله أذن لكم أم على الله تفترون) قاعدة عدم حجية الظن، وقالوا: إِنّ هذا التعبير يوضح أنّه لايمكن إِثبات أي حكم من الأحكام الإِلهية بدون القطع واليقين، وإِلاّ فإنّه افتراء على الله وحرام.

(لنا بحوث في هذا الإِستدلال ذكرناها في مباحث علم الأُصول).

4 - إِنّ الآيات أعلاه تعطينا درساً آخر، وهو أنّ التشريع مقابل شريعة الله دين الجاهلية، حيث كانوا يعطون لأنفسهم الحق في وضع الأحكام مع ضيق أفكارهم وضحالتها، ولكن لا يمكن أن يكون المؤمن الحقيقي كذلك مطلقاً.

وما نراه في عصرنا الحاضر من أن جماعة يتحدثون عن الله والإِسلام، وفي الوقت نفسه يمدون يد الإِستجداء نحو قوانين الآخرين غير الإِسلامية، أو يسمحون لأنفسهم بأن يطرحوا جانباً قوانين الإِسلام باعتبارها غير قابلة للتطبيق ويشرّعون بأنفسهم القوانين، فإِنّ هؤلاء من أتباع سنن الجاهلية أيضاً.

إِنّ الإِسلام الواقعي لايقبل التجزئة، فعندما قلنا: إِنّنا مسلمون، فيجب أن نعترف بكل قوانينه فما يقال من أن قوانين الإِسلام غير قابلة بأجمعها للتنفيذ وهم باطل لا أساس له، وهو ناشىء من التغريب وانهيار الشخصية.

طبعاً، إِنّ الإِسلام - نظراً لشموليته - قد أطلق لنا في بعض المسائل اتخاذ مقررات وقوانين مناسبة مع ذكر الأُصول العامّة حتى نستطيع أن ننظم احتياجات كل عصر وزمان حسب تلك الأصول بالإِستشارة والتشاور، ثمّ نضعها في حيز التنفيذ.

5 - أكّدت الآية الأخيرة حين الإِشارة إِلى سعة علم الله على ثلاث مسائل وقالت: إِنّك لاتكون في حالة نفسية معينة، ولا تتلو أية آية، ولا تقوم بأي عمل إِلاّ ونحن شاهدون عليك وناظرون إِليك.

إِنّ هذه التعبيرات الثلاثة إِشارة إِلى أفكار وأقوال وأعمال البشر، أي إِنّ الله تعالى كما ينظر إِلى أعمالنا، فإِنّه يسمع كلامنا، وهو مطلع على أفكارنا ونيّاتنا، ولا يخرج عن إِحاطة علم الله شيء منها.

ولا شك أنّ النية والحالات الروحية تقع في المرحلة الأُولى، والقول يأتي بعدها، ثمّ يتبعهما العمل والتنفيذ، ولهذا قد ورد نفس الترتيب في الآية.

ثمّ إِنّنا نرى أنّ القسم الأوّل والثّاني قد ذكرا بصيغة المفرد، والخطاب موجه إِلى النّبي (ص) ، أمّا القسم الثّالث فإِنّه ورد بصيغة الجمع والخطاب موجه لعامّة المسلمين، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أن اتّخاذ القرار في البرامج الإِسلامية مرتبط بقائد الأُمّة وهو النّبي (ص) ، كما أن تلقي آيات القرآن من الله وتلاوتها يتمّ عن طريقة، إلاّ أنّ العمل بهذه البرامج والأوامر متعلق بكل الأُمّة، ولا يستثنى من ذلك أحد.

6 - لقد بيّنت آخر هذه الآيات درساً كبيراً لكل المسلمين... درس يستطيع أن يسلك بهم طريق الحق ويصرفهم عن الإِنحرافات والطرق الملتوية..

درس فيه صلاح المجتمع مع التوجّه اليه، وهو: إِنّنا يجب أن نعي هذه الحقيقة، وهي أن كل خطوة نخطوها، وكل كلام نقوله، وكل فكرة تخطر في أذهاننا، ولأي جهة ننظر، وعلى أي حال نكون، فليس الله سبحانه وحده يراقبنا ونحن على هذه الأحوال والأفعال، بل إِنّ ملائكته تراقبنا أيضاً، وينظرون إِلينا بكل دقة وانتباه.

إِنّ أدنى حركة في خفايا السماء والارض لا تخفي على علمه ونظره، بل إنّها تثبت كلّها في ذلك اللوح المحفوظ الذي لا طريق للغلط والإِشتباه والإِختلاف إِليه.. في صفحة علم الله اللامتناهي.. في فكر الملائكة المقربين وكتّاب أعمال الآدميين.. في ملفنا وصحيفة أعمالنا كلنا.

ولم يكن ذلك بدون مبرر وعلة حيث يقول الإِمام الصادق: "كان رسول الله إِذا قرأ هذه الآية بكى بكاءً شديداً" (3)... فإِذا كان رسول الله (ص) مع كل ذلك الإِخلاص والعبودية، ومع كل تلك الخدمة للخلق والعبادة للخالق خائفاً من عمله في مقابل علم الله، فإِنّ حالنا وحال الآخرين معلوم.


1- (البحيرة) هي الحيوان الذي يلد عدّة مرّات، و(السائبة) هو البعير الذي أنتج عشرة أو اثني عشر ولداً، و(الوصيلة) كانت تطلق على الغنم إِذا ولدت سبعة بطون. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (103) من سورة المائدة.

2- لقد أرجع البعض ضمير (منه) إِلى الله، أي إِن الآيات التي تتلوها من الله، إلاّ أن الضمير يرجع إِلى الشأن أو القرآن ظاهراً، كما قاله كثير من المفسّرين، أي الآيات التي تتلوها في كل عمل مهم، أو الآيات التي تتلوها من القرآن.

3- مجمع البيان الجزء الخامس ص 116 ذيل الآية.