الآيتان 57 - 58
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ57قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ58﴾
التّفسير
القرآن رحمة إِلهية كبرى:
لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب من مخالفات المشركين.
وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة أيضاً، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطاباً عالمياً وشمولياً وتقول:
(يا أيّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين).
لقد بيّنت هذه الآية أربع صفات للقرآن، ولإدراك مدلولاتها ومحتواها لابدّ أن نعتمد أوّلا على لغاتها ومعناها.
"الوعظ" و"الموعظة"، كما جاء في المفردات: هو النهي الممتزج بالتهديد، أنّ معنى الموعظة أوسع من هذا ظاهراً، كما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في نفس كتاب المفردات، أنّ الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب.
وفي الحقيقة فإِنّ كل نصح وإِرشاد يترك أثراً في المخاطب، ويخوفه من السيئات ويرغّبه في الصالحات يسمى وعظاً وموعظة.
وطبعاً ليس معنى هذا أن كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير، بل المراد أنّها تؤثر في القلوب المستعدة.
والمقصود من شفاء أمراض القلوب، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية.
والمقصود من "الهداية" هو الهداية نحو المقصود، أي تكامل ورقي الإِنسان في كافة الجوانب الإِيجابية.
والمراد من "الرحمة" هي النعم المادية والمعنوية الإِلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، كما نقراً في كتاب المفردات أنّ الرحمة متى ما نسبت إِلى الله فإِنّها تعني بذله وهبته للنعم، وإِذا ما نسبت إِلى البشر فإِنّها تعني العطف ورقة القلب.
في الواقع، إِنّ الآية أعلاه تشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإِنسان في ظل القرآن.
المرحلة الأُولى: مرحلة الموعظة والنصيحة.
المرحلة الثّانية: مرحلة تطهير روح الإِنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية.
المرحلة الثّالثة: مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.
المرحلة الرّابعة: هي المرحلة التي يصل فيها الإِنسان إِلى أن يكون لائقاً لأن تشمله رحمة الله ونعمته.
وكل مرحلة من هذه المراحل تأتي بعد المرحلة السابقة لها، والجميل في الأمر أنّها تتمّ جميعاً في ظل نور القرآن وتوجيهاته.
القرآن هو الذي يعظ البشر، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها، والقرآن أيضاً هو الذي ينزل النعم الإِلهية على الفرد والمجتمع.
ويوضح أميرالمؤمنين علي (ع) في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير، حيث يقول: "فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على ولائكم، فإِنّ فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال" (1).
وهذا بنفسه يبيّن أنّ القرآن وَصْفَة لتحسين حال الفرد والمجتمع، وصيانتهم من أنواع الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف النسيان، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي، فإِنّهم يبحثون عن دوائهم وعلاجهم في المذاهب الأُخرى، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة فقط، لا كتاب تفكر وعمل!
وتقول الآية الأُخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة الإِلهية الكبرى - أي القرآن المجيد ـ: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ولا يفرحوا بمقدار الثروات، وعظم المراكز، وعزة القوم والقبيلة، لأنّ رأس المال الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن، فهو أفضل من كل ما جمعوه، ولا يمكن قياسه بذلك المجموع، إِذا (هو خير ممّا يجمعون).
ملاحظتان
1 - هل أنّ القلب هو مركز الإِحساسات؟
ظاهر الآية الأُولى من هذه الآيات، كما هو ظاهر بعض آيات أُخرى من القرآن، أنّ مركز الأمراض الأخلاقية هو القلب.
إِنّ هذا الكلام يمكن أن يعارضه في البداية هذا الإِشكال، وهو أنّنا نعلم أن كل الأوصاف الأخلاقية والمسائل الفكرية والعاطفية ترجع إِلى روح الإِنسان، وليس القلب إلاّ مضخة أتوماتيكية لنقل الدم وتغذية خلايا البدن.
هذا حقّ طبعاً، فإِنّ القلب له وظيفة إِدارة جسم الإِنسان، والمسائل النفسية مرتبطة بروح الإِنسان، لكن توجد هنا نكتة دقيقة إِذا ما لوحظت سيتّضح رمز هذا التعبير القرآني، وهي أنّ في جسم الإِنسان مركزين كل منهما مظهر لبعض الأعمال النفسية للإِنسان، أي أنّ كلا من هذين المركزين إِذا تأثر بالإِنفعالات النفسية فإِنّه سيظهر رد الفعل مباشرة: أحدهما المخ، والآخر القلب.
عندما نبحث المسائل الفكرية في محيط الروح، فإِنّ انعكاس ذلك التفكير سيتّضح فوراً في المخ، وبتعبير آخر فإِنّ المخ آلة تساعد الروح في مسألة التفكر، ولذلك فإِنّ الدم يدور بصورة أسرع في المخ في حالة التفكير، وتتفاعل خلايا المخ بصورة أكبر، وبالتالي سوف تمتص كمية أكبر من الغذاء وترسل أمواجاً أكثر.
أمّا عندما يكون الكلام والبحث حول المسائل العاطفية كالعشق والمحبّة، والتصميم والإِرادة والغضب والحقد والحسد، والعفو والصفح، فإِنّ نشاطاً عجيباً يبدأ في قلب الإِنسان، فأحياناً تشتد ضرباته، وأحياناً تقل إِلى الحد الذي يُظن معه أنّه سيتوقف عن العمل، ونشعر أحياناً أن قلبنا يريد أن ينفجر.
كل ذلك نتيجة للارتباط الوثيق للقلب مع هذه المسائل.
لهذه الجهة ينسب القرآن المجيد الإِيمان إِلى القلب، فيقول: (ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم) (2).
ويعبر عن الجهل والعناد وعدم الإِذعان للحق بأنّه عمى القلب: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (3).
ومن نافلة القول، فإِن مثل هذه التعبيرات ليست مختصة بالقرآن، بل تلاحظ في أدب اللغات المختلفة في الأزمنة الغابرة، وتلاحظ اليوم أيضاً مظاهر هذه المسألة بأشكال مختلفة.
فغالباً ما نقول للشخص الذي نحترمه ونحبّه: إِنّ لك مكاناً في قلوبنا، أو أنّ قلوبنا منشدة إِليك، والأُدباء يجسدون هذا المعنى ويجعلون سنبلة العشق نابعة من القلب دائماً.
كل ذلك لأنّ الإِنسان يحس دائماً بتأثير خاص في قلبه في حالة العشق والغرام، أو الحقد والحسد، أي أنّ أوّل قدحة في هذه المسائل النفسية عند انتقالها إِلى الجسم تتجلّى في القلب.
إِضافة إِلى كل هذا، فقد أشرنا سابقاً إِلى أن أحد معاني القلب في اللغة هو عقل وروح الانسان، ومعنى ذلك أن القلب لاينحصر بهذا العضو الخاص الموجود داخل الصدر، وهذا بنفسه يمكن أن يكون تفسيراً آخر لآيات القلب، لكن لاجميعها، لأن بعضها صرحت بأنّها القلوب التي في الصدور - دققوا ذلك -.
2 - ما هو الفرق بين الفضل والرحمة؟
هناك بحث مفصّل بين المفسّرين في الفرق بين الفضل والرحمة اللذين أشير إِليهما في الآية الثّانية.
أ - فالبعض اعتبر الفضل الإِلهي إِلى النعم الظاهرية.
والرحمة إِشارة إِلى النعم الباطنية، وبتعبير آخر إِنّ إِحداها النعم المادية، والأُخرى النعم المعنوية.
وقد جاءت مراراً في آيات القرآن جملة: (وابتغوا من فضله) أو (لتبتغوا من فضله) بمعنى تحصيل الرزق والموارد المادية.
ب - وقال البعض الآخر: إِنّ الفضل الإِلهي بداية النعمة، ورحمته دوام النعمة.
وإِذا ما لاحظنا أنّ الفضل هو بذل النعمة وهبتها، وأن ذكر الرحمة بعد ذلك يجب أن يكون شيئاً مضافاً على ذلك يتّضح المراد من هذا التّفسير.
وما نقرؤه في روايات متعددة من أنّ المراد من الفضل الإِلهي هو وجود النّبي (ص) ونعمة النّبوة، وأنّ المراد من رحمة الله وجود علي (ع) ونعمة الولاية ربّما كان إِشارة إِلى هذا التّفسير، لأنّ النّبي (ص) كان بداية الإِسلام، والإمام علي (ع) سبب بقائه واستمراره فأحدهما علّة محدثة وموجدة، والآخر علّة مبقية (4).
واحتمل البعض الآخر أن يكون الفضل إِشارة إِلى نعم الجنّة، والرحمة إِشارة إِلى العفو عن الذنب وغفرانه.
ج - ويحتمل أيضاً أن الفضل إِشارة إِلى نعمة الله العامّة التي تعم العدو والصديق، والرحمة - بملاحظة كلمة (للمؤمنين) التي ذكرت كقيد للرحمة في الآية السابقة - إِشارة إِلى رحمته الخاصّة بالمؤمنين.
التّفسير الآخر الذي ذكر لهاتين الكلمتين، هو أنّ فضل الله إِشارة إِلى مسألة الإِيمان، والرحمة إِشارة إِلى القرآن المجيد الذي سبق الكلام عنه في الآية السابقة.
طبعاً، إِنّ أغلب هذه المعاني لا تضاد بينها، ويمكن أن تجمع جميعها في المفهوم الجامع للفضل والرحمة.
1- نهج البلاغة، الخطبة 176.
2- الحجرات، 14.
3- الحج، 46.
4- للإِطلاع على هذه الرّوايات، راجع تفسير نور الثقلين الجزء 2 ص 307 - 308.