الآيات 28 - 30
﴿وَيُوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ28 فَكَفَى بِالله شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ29 هُنالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْس مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلىَ اللهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ30﴾
التّفسير
مشهد من قيامة عبدة الأوثان:
تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإِلهي، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.
فتقول أوّلا: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) (1).
واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم، في حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله، لاشريكة أنفسهم.
إِنّ هذا التعبير في الحقيقة إِشارة لطيفة إِلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام، وهذا يشبه تماماً ما لو عيّن المشرف على التعليم معلماً أو مديراً غير صالح لمدرسة ما، صدرت ومنهما أعمال قبيحة وغير لائقة.
فتقول للمشرف: تعال وانظر، هذا معلمك وهذا مديرك يرتكبان مثل هذه الاعمال، في حين أنّه ليس معلمه ولامديره، بل معلم المدرسة ومديرها الذي اختارهما.
ثمّ تضيف: أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين - أي العابدون والمعبودون - عن بعضهم البعض، ونسأل كلا منهما على انفراد، تماماً كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد، فنسأل العابدين: بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟
ونسأل المعبودين: لماذا أصبحتم معبودين؟
أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟
(فزيلنا بينهم) (2).
في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: (وقال شركاؤهم ما كنتم إِيانا تعبدون) فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم، لا أنّكم كنتم تعبدوننا، ولو سلمّنا ذلك فإِنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.
ثمّ، ومن أجل التأكيد الأشد، يقولون: (فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إِن كنّا عن عبادتكم لغافلين) (3).
هناك بحث بين المفسّرين في المراد من الأصنام والشركاء، أي معبودات هي؟
وكيف أنّها تتكلم بهذا الكلام؟
فالبعض احتمل أن يكون المراد منها المعبودات الإِنسانية والشيطانية، أو من الملائكة التي لها عقل وشعور وإِدراك، إلاّ أنّهم رغم ذلك لا يعلمون بأنّ فئة تعبدهم، أمّا لأنّهم يعبدونهم حال غيابهم، أو بعد موتهم، وعلى هذا فإِنّ تكلم هؤلاء سيكون أمراً طبيعياً جدّاً، وهذه الآية نظيرة الآية (41) من سورة سبأ، التي تقول: (ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إِيّاكم كانوا يعبدون).
والإِحتمال الآخر الذي ذكره كثير من المفسّرين، هو أن الله سبحانه يبعث الحياة والشعور في الأصنام في ذلك اليوم بحيث تستطيع إِعادة الحقائق وذكرها، والجملة أعلاه للاصنام التي دعاها الله سبحانه للشهادة، وأنّهم كانوا غافلين عن عبادة من يعبدهم، وبذلك تكون أكثر تناسباً مع هذا المعنى، لأنّ الأصنام الحجرية والخشبية لا تفهم شيئاً أصلا.
ويمكن أن نحتمل في تفسير هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات، غاية ما في الأمر أن المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها، أمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا شعور فإِنّ الكلام عن لسان حالها، وتتحدث عن طريق انعكاس آثار العمل، تماماً كما نقول: إِنّ سيماءك تخبر عن سرك، والقرآن الكريم يبيّن أيضاً في الآية (21) من من سورة فصلت أن جلود الإِنسان ستنطق يوم القيامة، وكذلك في سورة الزلزلة يبيّن أنّ الأرض التي كان يسكنها الإِنسان ستذكر الحقائق.
إِنّ هذه المسألة ليست صعبة التصور في زماننا الحاضر، فإِذا كان شريط أصم يسجل كل كلامنا ويعيده عند الحاجة، فلا عجب أن تعكس الأصنام أيضاً واقع أعمال عابديها!.
على كل حال، ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال - كما يتحدث القرآن في آخر آية من آيات البحث - فإِنّ كل إِنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقاً ويرى نتيجتها، بل نفس أعماله، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا
يدعون الناس إِلى عبادتهم، وسواء المشركون والمؤمنون، من أي قوم ومن أي قبيل: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إِلى الله مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لايتم إلاّ بأمره (وردوا إِلى الله مولاهم الحق).
وأخيراً فإِنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة لله كذباً ستفنى وتمحى: (وضل عنهم ماكانوا يفترون) فإِنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد، ولا تبقى آية حقيقة إلاّ وتُظهر نفسها.
ومن الطبيعي أنّ هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إِلى سؤال أو جدال وبحث، بل إنّ الحال يحكي عن كل شيء، ولا حاجة للمقال.
1- إِنّ (مكانكم) في الواقع مفعول لفعل مقدر، وكانت في الأصل (ألزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى تسألوا) وهذه الجملة في الحقيقة تشبه الآية (24) من سورة الصافات، حيث تقول (وقفوهم إِنهم مسؤولون).
2- "زيلنا" من مادة التزييل، بمعنى التفريق، قال بعض أرباب اللغة: إِن مادتها الثلاثية، زال يزيل، بمعنى الفرقة، لا أنّها من مادة: زال يزول بمعنى الزوال.
3- (إِن) في الجملة أعلاه مخففة من الثقيلة، وهي للتأكيد ومعنى الجملة هو: إِنّنا كنّا عن عبادتكم لغافلين.