الآيتان:3 - 4
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَاالأَرضَ فىِ سِتَّةِ أَيَّامِ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَالِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ3إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَروُاْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانوُاْ يَكْفُرُونَ4﴾
التّفسير
معرفة الله والمعاد:
بعد أن أشار القرآن الكريم إِلى مسألة الوحي والنّبوة في بداية هذه السورة، انتقل في حديثه إِلى أصلين أساسيين في تعليمات وتشريعات جميع الأنبياء، ألا وهما المبدأ والمعاد، وبيّن هذين الأصلين ضمن عبارات قصيرة في هاتين الآيتين.
فيقول أوّلا: (إِنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيّام).
وكما أشرنا سابقاً، فإِنّ كلمة (يوم) في لغة العرب، وما يعادلها في سائر اللغات، تستعمل في كثير من الموارد بمعنى المرحلة، كما نقول: في يوم ما كان الإِستبداد يحكم بلادنا، أمّا اليوم فهي في ظل الثورة الاسلامية تنعم الحرية، ويعني أن مرحلة الإِستبداد قد إنتهت وجاءت مرحلة استقلال الشعب وحريته (1).
وعلى هذا فإِنّ مفهوم الجملة أعلاه يكون: إِنّ الله سبحانه قد خلق السماء والأرض في ستة مراحل، ولما كنّا قد تحدثنا عن هذه المراحل الستة سابقاً، فإِنّنا لا نكرر الكلام هنا (2).
ثمّ تضيف الآية: (ثمّ استوى على العرش يدبر الأمر).
كلمة "العرش" تأتي أحياناً بمعنى السقف، وأحياناً بمعنى الشيء الذي له سقف، وتارةً بمعنى الأسرّة المرتفعة، هذا هو المعنى الأصلي لها، أمّا معناها المجازي فهو القدرة، كما نقول: فلان تربع على العرش، أو تحطمت قوائم عرشه، أو أنزلوه من العرش، فكلها كناية عن تسلم القدرة أو فقدانها، في الوقت الذي يمكن أن لايكون للعرش أو الكرسي وجود في الواقع أصلا، ولهذا فإِنّ (استوى على العرش) تعني أنّ الله سبحانه قد أمسك بزمام أُمور العالم (3).
"التدبر" من مادة (التدبير) وفي الأصل من (دبر) بمعنى الخلف وعاقبة الشيء، وعلى هذا فإِنّ معنى التدبير هو التحقق من عواقب الأعمال، وتقييم المنافع، ثمّ العمل طبق ذلك التقييم.
إِذن، وبعد أن تبيّن أنّ الخالق والموجد هو الله سبحانه، اتّضح أنّ الأصنام، - هذه الموجودات الميتة والعاجزة - لايمكن أن يكون لها أي تأثير في مصير البشر، ولهذا قالت الآية في الجملة التالية: (مامن شفيع إلاّ من بعد إِذنه) (4).
وتتحدث الآية التالية - كما أشرنا - عن المعاد، وتبيّن في جمل قصار أصل مسألة المعاد، والدليل عليها، والهدف منها!.
فتقول أوّلا: (إِليه مرجعكم جميعاً) وبعد الإِستناد إِلى هذه المسألة المهمّة والتأكيد عليها تضيف: (وعد الله حقّاً) ثمّ تشير إِلى الدليل على ذلك بقولها: (إِنّه يبدأ الخلق ثمّ يعيده) أي إِنّ هؤلاء الذي يشكّون في المعاد يجب عليهم أن ينظروا إِلى بدء الخلق، فإِنّ من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيده من جديد.
وقد مر بيان هذا الإِستدلال بصورة أُخرى في الآية (29) من سورة الأعراف ضمن جملة قصيرة تقول: (كما بدأكم تعودون) وقد سبق شرح ذلك في تفسير سورة الأعراف.
إِنّ الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أنّ العلة الأساسية في تشكيك وتردد المشركين والمخالفين، هي أنّهم كانوا يشكون في إِمكان حدوث مثل هذا الشيء، وكانوا يسألون بتعجب بأنّ هذه العظام النخرة التي تحولت إِلى تراب، كيف يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إِلى حالتها الأُولى؟
ولهذا نرى أنّ القرآن قد وضع إِصبعه على مسألة الإِمكان هذه ويقول: لا تنسوا أن الذي يبعث الوجود من جديد، ويحيي الموتى هو نفسه الذي أوجد الخلق في البداية.
ثمّ تبيّن الهدف من المعاد بأنّه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة حيث لا تخفى على الله سبحانه مهما صغرت: (ليجزي الذين أمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) أمّا أُولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإِنكار، ولم تكن لديهم أعمال صالحة - لأنّ الإِعتقاد الصالح أساس العمل الصالح - فإِنّ العذاب الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم: (والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون).
وهنا نقطتان تسترعيان الإِنتباه:
1 - لما لم يكن لله سبحانه وتعالى مكان خاص، وخاصّة إِذا علمنا أنّه موجود في كل مكان في جميع العوالم، وأنّه أقرب إِلينا منّا، فإِنّ هذه الحقيقة قد جعلت المفسّرين يفسرون (إِليه مرجعكم جميعاً) في هذه الآية، والآيات الأُخرى في القرآن، تفاسير مختلفة:
فقيل تارةً أن المقصود هو أنّكم ترجعون إِلى جزاء الله سبحانه.
وربّما اعتبر بعض الجاهلين هذا التعبير دليلا على تجسم الله سبحانه في يوم القيامة، وبطلان هذه العقيدة أوضح من أن يحتاج إِلى بيان وإِثبات.
إِلاّ أنّ الذي يبدو بدقة من خلال آيات القرآن الكريم، إِنّ عالم الحياة كقافلة تحركت من عالم العدم وتستمر في مسيرتها اللانهائية نحو اللانهاية التي هي ذات الله المقدسة، بالرغم من أنّ المخلوقات محدودة، والمحدود لايمكن أن يكون لا نهائياً قط، غير أنّ سيره إِلى التكامل لا يتوقف أيضاً، وحتى بعد قيام القيامة فإِنّ السير التكاملي سيستمر، كما أوضحنا ذلك في بحث المعاد.
يقول القرآن الكريم: (يا أيّها الإِنسان إِنّك كادح إِلى ربّك كدحاً).
ويقول: (يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إِلى ربّك).
ولما كان بداية الحركة من جهة الخالق، حيث شعت منه أوّل بارقة للحياة، وأن هذه الحركة التكاملية - أيضاً - تسير نحوه، فقد عبّرت الآية بالرجوع.
وبعبارة مختصرة فإِنّ هذه التعبيرات إِضافةً إِلى أنّها تشير إِلى أن بداية حركة عامّة الموجودات من الله سبحانه، فإِنّها تبيّن أيضاً أنّ هدف هذه الحركة وغايتها، هي ذات الله المقدسة.
وإِذا لاحظنا أن تقديم كلمة "إليه" يدل على الحصر، سيتّضح أن اي وجود غير ذات الله المقدسة لايمكن أن يكون هدفاً وغاية لهذه الحركة التكاملية لا الأصنام ولا أي مخلوق آخر، لأنّ كل هذه الوجودات محدودة، ومسير الإنسان مسير لا نهائي.
2 - إِنّ كلمة "القسط" تعني في اللغة إِعطاء سهم آخر، ولذلك فقد أخفي فيها مفهوم العدل والإِنصاف.
واللطيف أنّ الآية قد استعملت هذه الكلمة في حق ذوي الأعمال الصالحة فقط، ولم تذكرها في جزاء الكافرين والسيئي الأعمال، وذلك لأنّ العذاب ليس على شكل الحصص والأرباح، وبتعبير أخر فإنّ كلمة القسط تناسب الجزاء الحسن فقط، لا العقاب.
1- من أجل مزيد التوضيح، وذكر الأمثلة في هذا المجال راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.
2- المصدر السّابق.
3- لمزيد التوضيح والإِطلاع على معاني العرش المختلفة، راجع تفسير الآية (54) من سورة الأعراف و (255) من سورة البقرة.
4- لقد أوضحنا توضيحاً كافياً مسألة الشفاعة المهمّة في المجلد الأوّل في تفسير الآية (47) من سورة البقرة.