الآيات 107 - 110

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنينَ وَإِرصَاداً لِمَنْ حَارِبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَآ إِلاََّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ 107 لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ108 أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيـنَهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوَن خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَـنَهُ عَلى شَفَا جُرُف هَار فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْظَّـلِمِينَ 109 لاَ يَزَالُ بُنْيَـنُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 110﴾

سبب النزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أُخرى من المنافقين الذين أقدموا - من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة - على بناء مسجد في المدينة، عرف فيما بعد بـ (مسجد الضرار).

وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسّرين الإِسلاميين، وكثير من كتب التاريخ والحديث، مع وجود اختلافات في جزئياته.

وخلاصة القضية - كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة - أنّ جماعة من المنافقين أتوا إِلى النّبي (ص) وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني سليم - قرب مسجد قبا - حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ، وكذلك ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيّام الممطرة، ويؤدوا فرائضهم الإِسلامية، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه النّبي (ص) عازماً على التوجه إِلى تبوك.

فأذن لهم النّبي (ص) ، إلاّ أنّهم لم يكتفوا بذلك، بل طلبوا منه أن يصلي فيه، فأخبرهم بأنّه عازم على السفر الآن، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم ويصلي فيه.

فلمّا رجع النّبي (ص) من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم والصلاة فيه، وأن يدعوا الله لهم بالبركة، وكان النّبي (ص) لم يدخل بعد أبواب المدينة، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء، فأمر النّبي بحرق المسجد المذكور، وبهدم بقاياه، وأن يُجعل مكانه محلا لرمي القاذورات والأوساخ.

إِذا نظرنا إِلى الوجه الظاهري لهذا العمل، فسوف نتحير في البداية، فهل أن بناء مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة، والذي هو في حقيقته عمل ديني وخدمة إِنسانية، يعدّ عملا مضراً وسيئاً حتى يصدر في حقّه هذا الحكم؟

إلاّ أنّنا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أنّ هذا الأمر بهدمه في منتهى الدقة.

وتوضيح ذلك، أنّ رجلا في زمن الجاهلية يقال له: أبو عامر، كان قد اعتنق النصرانية، وسلك مسلك الرهبانية، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في طائفة الخزرج.

وعندما هاجر النّبي (ص) إِلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر، رأى أبو عامر - الذي كان يوماً من المبشرين بظهور النّبي (ص) - أنّ الناس قد انفضوا من حوله، وبقي وحيداً، وعند ذلك قرر محاربة الإِسلام، فهرب من المدينة إِلى كفار مكّة، واستمد منهم القوّة لمحاربة النّبي (ص) ، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءاً من مخططات معركة أحد، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط النّبي (ص) في أحدها فجرحت جبهته وكُسرت رباعيته.

فلمّا إنتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب، دوى صوت الإِسلام أكثر من ذي قبل، وعمّ كل الأرجاء، فهرب أبو عامر من المدينة وذهب إِلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النّبي (ص) ، وليرجع إِلى المسلمين ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.

ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة، وهي أنّ النّبي (ص) لما رأى صدر منه من التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيّهم سمّاه (فاسقاً).

يقول البعض: إنّ الموت لم يمهله حتى يُطلع هرقل على نواياه ومشاريعه، إلاّ أنّ البعض الآخر يقول: إِنّه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!

على كل حال، فإنّه قبل أن يموت أرسل رسالة إِلى منافقي المدينة يبشرهم فيها بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم، وأكّد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزاً ومقرّاً في المدينة ليكون منطلقاً لنشاطات المستقبل.

ولما كان بناء مثل هذا المقر، وباسم أعداء الإِسلام غير ممكن عملياً، رأى المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد، وبعنوان مساعدة المرضى والعاجزين.

وأخيراً تمّ بناء المسجد، ويقال أنّهم اختاروا شاباً عارفاً بالقرآن من بين المسلمين يقال له: "مجمع بن حارثة" أو "مجمع بن جارية" وأوكلوا له إمامة المسجد.

إِلاّ أنّ الوحي الإِلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء، وربّما لم يأمر النّبي (ص) بشيء قبل ذهابه إِلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدّة، من أجل أن يتّضح أمرهم أكثر من جهة، ولئلا ينشغل فكرياً وهو في مسيرة إِلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو أصدر الأمر.

وكيف كان، فإنّ النّبي (ص) لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب، بل إنّه - كما قلنا - أمر بعض المسلمين - وهم مالك بن دخشم، ومعنى بن عدي، وعامر بن سكر أو عاصم بن عدي - أن يحرقوا المسجد ويهدموه، فنفذ هؤلاء ما أُمروا به، فعمدوا إِلى سقف المسجد فحرّقوه، ثمّ هدموا الجدران، وأخيراً حولوه إِلى محل لجمع الفضلات والقاذورات (1).

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد!

أشارت الآيات السابقة إِلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين، وتُعَرِّف الآيات التي نبحثها مجموعة أُخرى منهم، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية، إلاّ أن اللطف الإِلهي أدرك المسلمين، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.

فالآية الأُولى تقول: (والذين اتخذوا مسجداً) (2) وأخفوا أهدافهم الشريرة تحت هذا الإسم المقدس، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف:

1 - إِنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إِلحاق الضرر بالمسلمين، فكان مسجدهم (ضراراً).

"الضرار" تعني الإضرار العمدي، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إِلى المكيدة بالنّبي (ص) ورسالته، وسحق المسلمين، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.

2 - تقوية أُسس الكفر، ومحاولة إِرجاع الناس إِلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإِسلام: (وكفراً).

3 - إِيجاد الفرقة بين المسلمين، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريباً منه، أو مسجد النّبي (ص) الذي كان يبعد عنه، (وتفريقاً بين المؤمنين).

ويظهر من هذه الجملة - وكذلك فهم بعض المفسّرين - أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الإِجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إِلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإِسلامية.

4 - والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق، السيئة، والإِنطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم: (وإِرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل).

إِلاّ أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع، وأنّهم لايريدون إلاّ الخير: (وليحلفن إِن أردنا إلاّ الحسنى) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور، فإنّهم إضافة إِلى تلبسهم بلباس حسن، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام، وإنحراف الأفكار.

إِلاّ أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء: (والله يشهد إِنّهم لكاذبون).

في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء، فهي جملة اسمية أوّلا، ثمّ إنّ كلمة (إِن) للتأكيد، وأيضاً اللام في (لكاذبون) ، والتي تسمى لام الإِبتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيداً شديداً على مسألة حياتية مهمّة، ويأمر نبيّه بصراحة أن (لا تقم فيه أبداً) بل (لمسجد أُسس على التقوى من أوّل يوم أحق أن تقوم فيه) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

إِنّ كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل، إلاّ أنّها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين شيئين في التناسي والملاءمة، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه، والملاءمة وعدمها، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيراً في آيات القرآن الكريم والأحاديث، بل وفي محادثاتنا اليومية، وله نماذج عديدة.

فمثلا نقول للشخص المجرموالسارق: إنّ الإستقامة والعمل الصالح الصحيح خير لك، فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ السرقة والتلوث بالجريمة شيء حسن، وأن الإِستقامة والطهارة أحسن، بل معناه أن الإِستقامة وحسن السيرة شيء حسن، وأنّ السرقة عمل سيء وغير مناسب.

وقال المفسّرون: إِنّ المسجد الذي أشارت الآية إِلى أنّه يستحق أن يصلي فيه النّبي (ص) هو "مسجد قبا" حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.

واحتُمل أيضاً أن يكون المقصود منه مسجد النّبي (ص) ، أو كل المساجد التي بنيت على أساس التقوى، إلاّ أنّنا لاحظنا تعبير (أوّل يوم) وأن مسجد قبا هو أوّل مسجد بني في المدينة (3) ، علمنا أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب والأرجح، ولو أنّ هذه الكلمة تناسب أيضاً مساجد أُخرى كمسجد النّبي (ص).

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإِضافة إِلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى، فإنّ (فيه رجال يحبّون أن يتطهروا والله يحبّ المطهرين).

ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية، أم المعنوية؟

هناك بحث بين المفسّرين في الرّواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن النّبي (ص) أنّه قال لأهل قبا: "ماذا تفعلون في طهركم، فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟

" قالوا: نغسل أثر الغائط.

وقد نقلت روايات أُخرى بهذا المضمون عن الإِمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ، لكن - كما قلنا سابقاً وأشرنا مراراً - مثل هذه الرّوايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية في هذا المصداق، بل - وكما يشير ظاهر إطلاق الآية - أنّ للطهارة هنا معنى واسعاً يشمل كل أنواع التطهير، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثّالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين: المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد.

فهي تقول أوّلا: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم).

"بنيان" مصدر بمعنى اسم مفعول، ويعني المبنى، و (شفا) بمعنى حافة الشيء وطرفه، و (جرف) بمعنى حافة النهر أو حافة البئر التي جرف الماء ما تحتها.

و (هار) بمعنى الشخص أو البناء المتصدع المشرف على السقوط، أو هو في حال السقوط.

إن التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم، فهو يشبه المؤمنين بمن أراد أن يبني بناء، فإنّه ينتخب الأرض الجيدة القوية التي تتحمل البناء، ومختار من مواد البناء الأولية ما كان جيداً.

أمّا المنافقون فإنّه يشبّههم بمن يبني بيته على حافة النهر - ومثل هذه الأرض جوفاء - لأن جريان الماء قد نخرها، وبالتالي فهي عرضة للسقوط في أي لحظة، وكذلك النفاق، فإنّ ظاهره حسن لكنّه عديم المحتوى كالبناية الجميلة ذات الأساس النخر.

إنّ هذه البناية يمكن أن تنهار في آية لحظة، ومذهب أهل النفاق أيضاً يمكن أن يُظهر واقع أتباعه وباطنهم، وبالتالي فضيحتهم وخزيهم.

إنّ التقوى والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى يعني التعامل مع الواقع، والسير وفقا لقوانين الخلقة وهي بدون شك عامل البقاء والثبات.

أمّا النفاق فإنّه يعني الإنفصال عن الواقع والإِبتعاد عن قوانين الوجود، وهذا بلا شك هو عامل الزوال والفناء.

ومن هنا، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضاً ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين).

وكما قلنا مراراً، فإنّ الهداية الإلهية تعني تهيئة المقدمات للوصول إِلى الغاية، وهي تشمل - فقط - أُولئك الذين لديهم الإِستعداد لتقبل هذه الهداية ويستحقونها، أمّا الظالمون الفاقدون لمثل هذا الإِستعداد فسوف لا يشملهم هذا اللطف مطلقاً، لأنّ الله حكيم، ومشيئته وإِرادته وفق حساب دقيق.

وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم، وعنادهم في نفاقهم، وحيرتهم في ظلمة كفرهم، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه، أو في النتيجة المرجوة منه، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلاّ أن تقطع قلوبهم).

إنّ هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والإِضطراب، وإن مقر النفاق الذي أقاموه، والمسجد الضرار الذي بنوه، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء، فبالرغم من أنّ النّبي (ص) قد أحرق هذا البناء وهدمه، إلاّ أن أثره وأهدافه قد لا تزول من القلوب.

وتقول الآية أخيراً: (والله عليم حكيم) فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّه (ص) بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهراً، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإِلهي هو عين الحكمة، وحسب صلاح المجتمع الإِسلامي، وقد صدر على هذا الأساس، لا أنّه حكم عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب.

بحوث

1 - درس كبير

إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبي (ص) يوضحان تماماً بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقاً، وأن لا يكتفوا بالنظر إِلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها، والمستترة بهذا الظاهر البراق.

المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي لباس تلبس، وبأي صورة يظهر بها، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.

إنّ الإِستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئاً جديداً، بل هو طريق الإِستعمار وأُسلوبه على الدوام، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأُسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.

وأساساً فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.

ومن البديهي أنّ محاربة الإِسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة، وذلك في عصر النّبي (ص) ، ومع ذلك النفوذ الخارق للإِسلام والقرآن، أمر غير ممكن، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.

إلاّ أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحياً إِلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج، ويحقق القرائن الأُخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.

المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق، ويلبي تلك الدعوة.

المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إِليه، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعاراً دينياً، أو يتعهد بالإِنضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين، أو ينجذب إِلى كل بناء يشيد باسم الدين.

المسلم يجب أن يكون حذراً، واعياً، واقعياً، بعيد النظر، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الإِجتماعية.

المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة، ويُعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء.

هناك قاعدة أساسية في الإِسلام، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته، لا بظاهره، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني، إلاّ أن أحداً لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته، حتى ولو كان ماهراً ومقتدراً في اخفائها.

ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال، وهو: لماذا أصدر النّبي (ص) أمراً بحرق المسجد الذي هو بيت الله، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعاً إِخراج حصاة واحدة من حصاة، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فوراً إِذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!

وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجداً بل معبداً للأصنام... لم يكن مكاناً مقدساً، بل مقراً للفرقة والنفاق... لم يكن بيت الله، بل بيت الشيطان... ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئاً مطلقاً.

كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين، وفي كل الأزمنة والأعصار.

وتتّضح من هذا البحث - أيضاً - أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام، والتي تبلغ حداً بحيث إِذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إِلى التفرقة والإِختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقاً.

2 - النفي لا يكفي لوحده!

الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّه (ص) في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأُسسه على أساس التقوى.

إِنّ النفي والإِثبات يتجلى في الإِسلام من شعاره الأصلي (لا إِله إلاّ الله) إِلى أُموره الصغيرة والكبيرة الأُخرى، يبيّن هذه الحقيقة، وهي ضرورة وجود الاثبات إِلى جانب النفي دائماً على أرض الواقع العملي، فإنّا إِذا نهينا الناس عن الذهاب إِلى مراكز الفساد، فيجب أن نبني ونوفر لهم المقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها... إِذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة... إِذا حاربنا الثقافة الإستعمارية، فيجب أن تهيىء الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم... إِذا شجبنا الإنحلال الخلقي والسقوط الإِجتماعي، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.

الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي، دون الاهتمام بالجانب الإِيجابي والإِثباتي، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئاً، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح، ولأنّ قانون الإِسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة.

وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية!

هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإِثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتمياً.

3 - شرطان أساسيان

الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإِيجابي دينياً وإجتماعياً، هو الذي يتشكل من عنصرين.

الأوّل: أن يكون الأساس الذي يستند إِليه، والهدف الذي يطمح إِلى تحقيقه، طاهرين من البداية: (أسس على التقوى من أول يوم).

الثّاني: أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناساً طاهرين ومخلصين ومؤمنين: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا).

إِنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إِلى الهدف المنشود.


1- مجمع البيان، وتفسير أبي الفتوح الرازي، وتفسير المنار، وتفسير الميزان، وتفسير نور الثقلين، وكتب أُخرى.

2- بالرغم من أنّ المفسّرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة، إلاّ أنّ الظاهر هو أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين، وتقديرها هكذا: "ومنهم الذين اتخذوا مسجداً...".

3- الكامل لابن الأثير، ج2، ص 107.