الآيتان 84 - 85
﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَد مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَـسِقُونَ 84 وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَأَوْلَـدُهُمْ إِنَّـمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَـفِرُونَ 85﴾
التّفسير
أسلوب أشدّ في مواجهة المنافقين:
بعد أن أزاح المنافقون الستار عن عدم مشاركتهم في ميدان القتال، وعلم الناس تخلفهم الصريح، وفشا سرّهم، أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بأن يتبع أسلوباً أشدّ وأكثر صراحة ليقتلع وإِلى الأبد - جذور النفاق والأفكار الشيطانية، وليعلم المنافقون بأنّهم لا محل لهم في المجتمع الإِسلامي، وكخطوة عملية في مجال تطبيق هذا الأسلوب الجديد، صدر الأمر الإِلهي (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره).
إِن هذا الأسلوب - في الواقع - هو نوع من الكفاح السلبي الفاعل في مواجهة المنافقين، لأنّ النّبي (ص) لم يستطع - للأسباب التي ذكرناها آنفاً - أن يأمر بقتل هؤلاء صراحة لتطهير المجتمع الإِسلامي منهم، أمّا هذا الأسلوب السلبي فهو مؤثر في احتقار هؤلاء وتحجيم دورهم، وتقزيمهم وطردهم من المجتمع الإِسلامي.
من المعلوم أنّ المؤمن الحقيقي محترم في الشرع الإِسلامي حيّاً وميتاً، ولهذا نرى الدين الإِسلامي الحنيف قد أصدر ضمن تشريعاته الأمر بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وأوجب أن يولى احتراماً كبيراً، وأن يودع التراب بمراسم خاصّة، وحتى بعد دفنه فإنّ من حقوقه أن يزور المؤمنون قبره، ويستغفروا له، ويطلبوا الرحمة له.
إنّ عدم إجراء هذه المراسم لفرد معين يعني طرده من المجتمع الإِسلامي، وإذا كان الطارد له هو النّبي (ص) نفسه، فإنّ الصدمة والأثر النفسي على نفسيته ووجوده سيكون شديداً جداً.
إن هذا البرنامج والأسلوب الدقيق - في الواقع - كان قد أعد لمقابلة منافقي ذلك العصر، ويجب أن يستفيد المسلمون من هذه الأساليب، أي أنّ هؤلاء المنافقين ما داموا يُظهرون الإِسلام، فمن الواجب عليهم أن يعاملوهم كمسلمين وإن كان باطنهم شيئاً آخر، أمّا إِذ أظهروا نفاقهم، وكشفوا اللثام عن وجوههم الحقيقية، فعندئذ يجب أن يعاملوهم كأجانب عن الإِسلام.
وفي آخر الآية يتّضح سبب هذا الأمر الإِلهي بـ (أنّهم كفرو بالله ورسوله) ورغم ذلك فإنّهم لم يفكروا بالتوبة ولم يندموا على أفعالهم ليغسلوها بالتوبة، بل إنّهم بقوا على أفعالهم (وماتوا وهم كافرون).
وهنا يمكن أن يسأل أحدكم: إِنّ المنافقين إِذا كانوا - حقيقة - بهذا البعد عن رحمة الله، وعلى المسلمين أن لا يُظهروا أي ود أو محبّة تجاههم، فلماذا فضّلهم الله تعالى ومنحهم كل هذه القوى الإِقتصادية من الأموال والأولاد؟
في الآية الأُخرى يوجه الله سبحانه وتعالى الخطاب إِلى النّبي (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) فإنّها ليست منحة ومحبة من الله تعالى لهؤلاء المنافقين، بل على العكس تماماً، فإنّ هذه الأموال والأولاد ليست لسعادتهم، بل (إنّما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
إنّ هذه الآية - كنظيرتها التي مرّت في هذه السورة، وهي الآية 55 - تشير إلى حقيقة، وهي أن هذه الإمكانيات والقدرات الإِقتصادية والقوى الإنسانية للاشخاص الفاسدين ليست غير نافعة لهم فحسب، بل هي - غالباً - سبب لإبتلائهم وتعاستهم، لأنّ أشخاصاً كهؤلاء لا هم يصرفون أموالهم في مواردها الصحيحة ليستفيدوا منها الفائدة البناءة، ولا يتمتعون بأبناء صالحين كي يكونوا قرة عين لهم ومعتمدهم في حياتهم.
بل إنّ أموالهم تصرف غالباً في طريق الشهوات والمعاصي ونشر الفساد وتحكيم أعمدة الظلم والطغيان، وهي السبب في غفلتهم عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أولادهم في خدمة الظلمة والفاسدين، ومبتلين بمختلف الإنحرافات الأخلاقية، وبذلك سيكونون سبباً في تراكم البلايا والمصائب.
غاية الأمر إنّ الذين يظنون أن الأصل في سعادة الإنسان هو الثروة والقوة البشرية فقط، أمّا كيفية صرف هذه الثروة والقوّة فليس بذلك الأمر المهم، تكون لوحة حياتهم مفرحة ومبهجة ظاهراً، إلاّ أنّنا لو اقتربنا منها واطلعنا على دقائقها، وعلمنا أنّ الأساس في سعادة الإنسان هو كيفية الإِستفادة من هذه الإمكانيات والقدرات لعلمنا أنّ هؤلاء ليسوا سعداء مطلقاً.
وهنا يجب الإنتباه لمسألتين:
1 - لقد وردت في سبب نزول الآية الأُولى روايات متعددة لا تخلو من الإختلاف.
فيستفاد من بعض الرّوايات، أنّ النّبي (ص) لما مات عبدالله بن أُبي - المنافق المشهور - صلى عليه، ووقف على قبره ودعا له، بل لَفَّه بقميصه ليكون كفناً له، فنزلت الآية ونهت النّبي (ص) عن تكرار هذا الفعل.
في الوقت الذي يُفهم من روايات أُخرى أن النّبي (ص) كان قد صمّم أن يصلي عليه، فنزل جبرئيل وتلا هذه الآية، ومنعه من هذا العمل.
وتقول عدة روايات أُخرى أنّ النّبي (ص) لم يصل عليه، ولم يكن عزم على هذا العمل، غاية ما في الأمر أن النّبي (ص) أرسل قميصه ليكفن به لترغيب قبيلة عبدالله بن أُبي في الإسلام، ولما سئل النّبي (ص) عن سبب فعله هذا أجاب (ص) بأنّ قميصه سوف لن ينجيه من العذاب، لكنّه يأمل أن يسلم الكثير بسبب هذا العمل، وبالفعل قد حدث هذا، فإنّ الكثير من قبيلة الخزرج قد أسلموا بعد هذه الحادثة.
وبالنظر إِلى اختلاف هذه الرّوايات اختلافاً كثير،، فإنّا قد صرفنا النظر عن ذكرها كسب للنزول، خصوصاً على قول بعض المفسّرين الكبار بأنّ وفاة عبدالله بن أُبي كانت سنة (التاسعة) هجرية، أمّا هذه الآيات فقد نزلت في حدود السنة الثّامنة. (1)
غير أن الذي لا يمكن إنكاره، أنّ الظاهر من أسلوب الآية ونبرتها أن النّبي (ص) كان يصلي على المنافقين، وكان يقف على قبورهم قبل نزول هذه الآيات، لأنّ هؤلاء كانوا مسلمين ظاهراً (2) ، لكنّه امتنع من هذه الأعمال بعد نزول هذه الآية.
2 - وكذلك يستفاد من الآية المذكورة جواز الوقوف على قبور المؤمنين والدعاء لهم والترحم عليهم، لأنّ النهي الوارد في الآية مختص بالمنافقين، وعلى هذا فإنّ هذه الآية تعني بمهفومها جواز زيارة قبور المؤمنين، أي: الوقوف على قبورهم والدعاء لهم.
إلاّ أن الآية قد سكتت عن مسألة إمكان التوسل بقبور هؤلاء المؤمنين، وطلب قضاء الحاجات ببركتهم من الله تعالى، رغم جواز ذلك من وجهة نظر الرّوايات الإِسلامية.
1- راجع الميزان، ج9، ص367.
2- يستفاد من مجموعة من الرّوايات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على المنافقين بعد نزول هذه الآية أيضاً، إلاّ أنّه يكبر أربعاً لا أكثر، أي أنّه كان يصرف النظر عن التكبير الخامس الذي هو دعاء للميت. إنّ هذه الرّواية يمكن قبولها فيما لو كان معنى الصلاة هنا الدعاء، و(لا تصل) في الآية هو (لا تدعُ)، أمّا لو كان المراد (لا تصل) فإنّ هذه الرّواية تخالف ظاهر القرآن، ولا يمكن قبولها. ولا يمكن إنكار أن جملة (لا تصل) ظاهرة بالمعنى الثاني، ولذلك فإنّنا لا نستطيع - من وجهة نظر الحكم الإسلامي - أن نصلي على المنافقين الذين اشتهر نفاقهم بين الناس، وأن نرفع اليد عن ظهور الآية لرواية مبهمة.