الآيات 1-15 من سورة المرسلات
مكية في قول ابن عباس وهي خمسون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا، وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا، فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا، عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ، فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾
القراءة:
قرأ (عذرا) مثقل أبو جعفر والبرجمي وقرأ (أو نذرا) خفيف أهل الكوفة غير أبي بكر وأبو عمرو. من ثقل الأول فلان الثاني مثقل، ومن خفف الثاني فلان الأول مخفف. والعذر بالتخفيف والنذر بمعنى الاعذار والانذار. ومن ثقل (نذرا) أراد جمع نذير. والعذر والمعذرة والتعذير بمعنى قال أبو علي النحوي: النذر بالتثقيل والنذير مثل النكر والنكير جميعا مصدران، ويجوز في النذر أمران:
أحدهما: أن يكون معناه المنذر.
الثاني: أن يكون مصدرا. وقرأ أبو عمرو وحده (وقتت) بالواو على الأصل، وافقه أبو جعفر في ذلك إلا أنه خفف الواو. الباقون (أقتت) بالهمزة أبدلوها من الواو كراهة الضمة على الواو، كما قالوا في (وحد) وقال الشاعر:
يحل أخيذه ويقال ثعل * بمثل تمول منه افتقار (1)
هذا قسم من الله تعالى بالمرسلات، كما اقسم بصاد وقاف ويس وغير ذلك وقال قوم: تقديره ورب المرسلات، لأنه لا يجوز القسم إلا بالله. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح: المرسلات - ههنا - الرياح، وفى رواية أخرى عن ابن مسعود وأبي صالح انها الملائكة. وقال قوم (المرسلات عرفا) الأنبياء جاءت بالمعروف. والارسال نقيض الامساك ومثله الاطلاق ونقيضه التقييد والارسال أيضا انفاد الرسول. وقوله (عرفا) أي متتابعة كعرف الفرس. وقيل: معروفا إرسالها. وإرسال الرياح اجراء بعضها في أثر بعض (فالعاصفات عصفا) يعني الرياح الهابة بشدة. والعصوف مرور الريح بشدة، عصفت الريح تعصف عصفا وعصوفا إذا اشتدت هبوبها، فعصوف الريح شدة هبوبها. وقوله (والناشرات نشرا) قال ابن مسعود ومجاهد وقتادة وأبو صالح: هي الرياح، لأنها تنشر السحاب للغيث، كما تلحقه للمطر. وقال أبو صالح - في رواية - هي الملائكة تنشر الكتب عن الله. وفي رواية أخرى عن أبي صالح إنها الأمطار لأنها تنشر النبات. وقيل الرياح تنشر السحاب في الهواء. وقوله (فالفارقات فرقا) قال ابن عباس وأبو صالح: هي التي تفرق بين الحق والباطل، وهي الملائكة وقال قتادة: هي آيات القرآن. وقال الحسن: هي آي القرآن تفرق بين الهدى والضلال (فالملقيات ذكرا) قال ابن عباس وقتادة هم الملائكة. والالقاء طرح الشئ على غيره، والالقاء الشئ على غيره، فالذكر يلقى بالبيان والافهام وهو من صفة الملائكة فيما تلقيه إلى الأنبياء، ومن صفة الأنبياء فيما تلقيه إلى الأمم، ومن صفة العلماء فيما تلقيه إلى المتعلمين وقيل لما جمعت الأوصاف للرياح لاختلاف فوائدها. وقال بعضهم (المرسلات عرفا) الأنبياء جاءت بالمعروف (فالعاصفات عصفا) الرياح (والناشرات نشرا) الأمطار نشرت النبات (فالفارقات فرقا) آي القرآن (فالملقيات ذكرا) الملائكة تلقي كتاب الله تعالى إلى الأنبياء. وقوله (عذرا أو نذرا) يحتمل نصبه وجهين:
أحدهما: على أنه مفعول له أي للاعذار والانذار.
الثاني: مفعول به أي ذكرت العذر والنذر. واختار أبو علي أن يكون بدلا من قوله (ذكرا) وقيل معناه اعذارا من الله وانذارا إلى خلقه ما ألقته الملائكة من الذكر إلى أنبيائه والعذر أمر في امر ظهوره دفع اللوم بأنه لم يكن يستحق لأجل تلك الحال مع وقوع خلاف المراد. فالعقاب على القبيح بعد الانذار يوجب العذر في وقوعه. وإن كان بخلاف مراد العبد الذي استحقه. قال الحسن (عذرا) معناه يعتذر به إلى عباده في العقاب أنه لم يكن الا على وجه الحكمة. والنذر والانذار وهو الاعلام بموضع المخافة ليتقي. ومن خفف (عذرا) كره توالي الضمتين. وقوله (إنما توعدون لواقع) جواب القسم ومعناه إن الذي وعدكم الله به من البعث والنشور والثواب والعقاب: كائن لا محالة. وقيل: الفرق بين الواقع والكائن أن الواقع لا يكون إلا حادثا تشبيها بالحائط الواقع، لأنه من أبين الأشياء في الحدوث، والكائن أعم منه لأنه بمنزلة الموجود الثابت يكون حادثا وغير حادث. وقوله (فإذا النجوم طمست) معناه محيت آثارها وذهب نورها. والطمس محو الأثر الدال على الشئ فالطمس على النجوم كالطمس على الكتاب، لأنه يذهب نورها والعلامات التي كانت تعرف بها (وإذا السماء فرجت) أي شققت وصدعت (وإذا الجبال نسفت) نسف الجبال إذهابها حتى لا يبقى لها في الأرض أثر، والنسف تحريك الشئ بما يخرج ترابه وما اختلط به مما ليس منه، ومنه سمي المنسف ونسف الحبوب كلها تجري على هذا الوجه، وقوله (نسفت) من قولهم: انسفت الشئ إذا اخذته بسرعة. وقوله (وإذا الرسل أقتت) أي أعلمت وقت الثواب ووقت العقاب، فالتوقيت تقدير الوقت لوقوع الفعل، ولما كانت الرسل عليهم السلام قد قدر إرسالها لأوقات معلومة بحسب صلاح العباد فيها كانت قد وقتت لتلك الأوقات بمعنى أعلمت وقت الثواب ووقت العقاب. وقال مجاهد وإبراهيم وابن زيد: أقتت بالاجتماع لوقتها يوم القيامة قال تعالى (يوم يجمع الله الرسل) (2) والمواقيت الآجال ومثله (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (3) وقيل: معنى اقتت أجلت لوقت ثوابها، وهو يوم الفصل. وقيل: معناه أجلت فيما بينها وبين أمتها (ليوم الفصل) ثم بين تعالى فقال (لأي يوم أجلت) أي أخرت إلى اجل فالتأجيل التأخير إلى أجل، فالرسل قد أجلت بموعودها إلى يوم الفصل، وهو يوم القيامة وسمي يوم الفصل، لأنه يفصل فيه بين حال المهتدي والضال بما يعلم الله لأحدهما من حال الثواب بالاجلال والاكرام، وللاخر من حال العقاب بالاستخفاف والهوان بما لا يخفى على انسان. وقيل: الوجه في تأجيل الموعود إلى يوم الفصل تحديد الامر للجزاء على جميع العباد فيه بوقوع اليأس من الرد إلى دار التكليف، لان في تصور هذا ما يتأكد به الدعاء إلى الطاعة والانزجار عن المعصية. وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) تهديد ووعيد لمن جحد يوم القيامة وكذب بالثواب والعقاب، وإنما خص الوعيد في الذكر بالمكذبين لان التكذيب بالحق يتبعه كل شئ، فخصال المعاصي تابعة له وإن لم يذكر معه، مع أن التكذيب قد يكون في القول والفعل المخالف للحق، ومنه قولهم: حمل فما كذب حتى لقي العدو فهزمه.
1- الطبري 29 / 126.
2- سورة 5 المائدة آية 112.
3- سورة 2 البقرة آية 189.