الآيات 161 - 163

﴿قُلْ إِنَّنِى هَدَنِى رَبِّى إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ161 قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ163﴾

التّفسير

هذا هو طريقي المستقيم

هذه الآية والآيات الأُخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر.

فقد بدأت هذه السورة بالدعوة إِلى التوحيد ومكافحة الشرك، وختمت بنفس ذلك البحث أيضاً.

ففي البداية أمرت رسول الله (ص) بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم: (قل إِنّني هداني ربي إِلى صراط مستقيم) أي طريق التوحيد، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها تبدأ بجملة: "قُلْ" ولعلّه لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة بهذا القدر مثل هذه السورة، وهذا يعكس في الواقع مدى شدّة المواجهة بين رسول الله (ص) وبين منطق المشركين.

كما أنّه يسُدُّ كل أبواب العذر في وجوههم، لأنّ تكرار كلمة "قل" علامة على أنّ كل ما يقوله لهم رسول الله (ص) إِنّما هو بأمر الله، بل هو عين كلام الله، لا أنّها آراء رسول الله (ص) وأفكاره وقناعاته الشخصية.

ومن الواضح أن ذكر كلمة "قل" في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن، إِنّما هو لحفظ أصالة القرآن، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي أُوحيت إِلى رسول الله.

وبعبارة أُخرى: الهدف منها هو الدلالة على أن رسول الله (ص) لم يحدث فيها أيّ تغيير في الألفاظ التي أُوحيت إِليه، وحتى كلمة "قل" التي هي خطاب إِليه قد ذكرها عيناً.

ثمّ إِنّه تعالى يوضح "الصراط المستقيم" في هذه الآية والآيتين اللاحقتين.

فهو يقول أوّلا: إِنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأُمور الدين والدنيا والجسد والروح: (ديناً قيماً) (1).

وحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإِبراهيم (ع) محبّة خاصّة، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إِبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إِليه لا ماتزعمونه: (ملة إِبراهيم).

إِبراهيم (ع) الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته، وأقبل على التوحيد (حنيفاً).

و"الحنيف" يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إِلى جهة ما، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقّة.

وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول الله (ص) مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب، فقال النّبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإِعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط، بل كان إِبراهيم - الذي نحترمه جميعاً - كذلك أيضاً.

ثمّ يضيف للتأكيد قائلا: (وما كان من المشركين)، بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية، وحامل الحرب ضد الشرك، الذي لم يفتأ لحظةً واحدة عن محاربته وكفاحه.

إِنّ تكرار جملة (حنيفاً وما كان من المشركين) في عدّة موارد من آيات القرآن الكريم مع قوله: "مسلماً" أو بدونها، إِنّما هو للتأكيد على هذه المسألة وهي أنّ إِبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرّأ ومنزه عن كل هذه العقائد والأعمال الخاطئة (2).

الآية اللاحقة تشير إِلى أنّه على النّبي أن يقول: إِنّي لست موحداً من حيث العقيدة فحسب، بل إِني أعمل كل عمل صالح: (قل إِنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)، فأنا أحيى لله، وله أموت، وأفدي بكل شيء لأجله، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.

و"النُسُك" يعني في الأصل العبادة، ولذا يقال: للعابد: ناسك، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال: مناسك الحج.

وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من "النُسُك" هنا هو "الأُضحيّة"، ولكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة، وهو إِشارة أوّلا إِلى الصّلاة كأهم عبادة، ثمّ إِلى سائر العبادات بشكل كلّي، يعني صلاتي وكل عباداتي، بل وحتى موتي وحياتي كلها له تعالى.

ثمّ في الآية الثالثة يضيف للتأكيد، وإِبطالا لأي نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلا: (لا شريك له).

ثمّ يقول في ختام الآية: (وبذلك أُمرتُ وأنا أوّل المسلمين).

كيف كان النّبيُّ أوّل مسلم؟

في الآية الحاضرة وُصِف رسول الله (ص) بأنه أوّلُ المسلمين.

وقد وقع بين المفسّرين كلام حول هذه المسألة، لأنّنا نعلم أنّه إِذا كان المقصود من "الإِسلام" هو المعنى الواسع لهذه الكلمة فإِنه يشمل جميع الأديان السماويّة، ولهذا يُطلَق وصف المسلم على الأنبياء الآخرين أيضاً، فاننا نقرأ حول نوح (ع) : (وأُمِرتُ أن أكون من المسلمين) (3).

ونقرأ حول إِبراهيم الخليل (ع) وإبنه إِسماعيل أيضاً: (ربّنا واجعلنا مسلِمين لك) (4).

وجاء في شأن يوسف (ع) : (توفّني مسلماً) (5).

على أن "المسلم" يعني الذي يسلّم ويخضع أمام أمر الله، وهذا المعنى يصدق على جميع الأنبياء الإِلهيين وأُممهم المؤمنة، ومع ذلك فإِن كونَ رسولِ الإِسلام أوّلَ المسلمين، إِمّا من جهة كيفية إِسلامه وأهميته، لأنّ درجة إِسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع، وإِمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الأُمّة التي قبلت بالإِسلام والقرآن.

وقد ورد في بعض الرّوايات - أيضاً - أنّه (ص) أوّل من أجاب في الميثاق في عالم الذّر، فإِسلامه متقدم على إِسلام الخلائق أجمعين (6).

وعلى أي حال فإنّ الآيات الحاضرة توضح روح الإِسلام، وتعكس حقيقة التعاليم القرآنية وهي: الدعوة إِلى الصراط المستقيم، والدعوة إِلى دين محطم الأصنام إِبراهيم الخالص، والدعوة إِلى رفض أي نوع من أنواع الشّرك والثنوية... هذا من جهة العقيدة والإِيمان.

وأمّا من جهة العمل: الدّعوة إِلى الإِخلاص، وإِلى تصفية النيّة، والإِتيان بكل شيء لله تعالى، الحياة لأجله، والموت في سبيله، وطلب كل شيء منه، ومحبّته، والإِنقطاع إِليه، وعن غيره، والتولي له، والتبرؤ من غيره.

فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإِسلامية الواضحة، وبين أعمال بعض المتظاهرين بالإِسلام الذين لا يفهمون من الإِسلام سوى التظاهر بالدين، ولا يفكرون في جميع الموارد إِلاّ في الظاهر، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة، ولهذا فليس حياتهم ومماتهم وإِجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا غير.


1- "قيماً" قد تأتي أيضاً بمعنى الاستقامة، وقد تأتي بمعنى الثبات والدوام وكذلك تأتي بمعنى القائم بامور الدين والدنيا.

2- البقرة، 135، آل عمران، 47 و95.

3- يونس، 72.

4- البقرة، 128.

5- يوسف، 101.

6- تفسير الصافي، ذيل هذه الآية.