الآيات 154 - 157
﴿ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ تَمَاماً عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ154 وَهَـذَا كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ155 أن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـبُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـفِلِينَ156 أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَـبُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَأَيَـتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَـتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ157﴾
التّفسير
ردٌ حاسمٌ على المتحججين والمتعلّلين:
في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإِسلام الأساسية التي تشكِّل - في الحقيقة - أساساً وقاعدةً للكثير من الأحكام الإِسلامية، ويستفاد من قوله تعالى: (إِنَّ هذا صِراطي مُستقيماً فاتَّبعُوهُ) ونظائره، أنّ هذه الأحكام لم تكن مختصّة بدين معنين أو شريعة خاصّة، خاصّة وأنّها من الأُصول والمبادىء التي يحكمُ بها العقلُ ويؤيَّدهامن دُون تلكؤ أو تأخير، وبهذا يكون مضمون الآيات السابقة هو بيانُ الأحكام التي لم تكن مختصّةً بالإِسلام، بل هي موجودة ومقررة في جميع الأديان.
ثمّ قال عقيب ذلك في هذه الآيات: (ثمّ آتَينا موسى الكتابَ تَماماً عَلى الّذي أحسن) فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتبعوه.
وممّا قيل يتّضح معنى كلمة "ثُمّ" تُستعمل في اللغة العربية عادة في "العطف مع التراخي" ويكون معنى الآية هو: أنّنا آتَينا هذه التعاليم والوصايا العامّة للأنبياء السابقين أوّلا، ثمّ آتينا موسى كتاباً سماوياً وَبَيّنا فيه هذه التعاليم والبرامج وغيرها من التعاليم والبرامج اللازمة.
وبهذا لا حاجة إِلى ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من التوجيهات المختلفة، والضعيفة أحياناً في هذا المجال.
كما تتّضح هذه النقطة أيضاً، وهي أنّ عبارة: (الذي أحسَنَ) إِشارة إِلى جميع المحسنين، والذين يستجيبون للحق، ويقبلون بالأوامر الإِلهية.
(وتفصيلا لكل شيء) فإِن فيه كلّ شيء ممّا يحتاج إِليه المجتمع، وممّا له أثرٌ في تكامل الإِنسان وترشيده.
(وَهُدىً ورحمة) أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافاً إِلى ما سبق: هدىً ورحمةً.
إِنَّ جميع هذه البرامج ما هيَ إِلاّ لكي يؤمنوا بيوم القيامة، وبلقاء الله، ولكي يُطهِّروا عن طريق الإِيمان بالمعاد أفكارَهم، وأقوالَهم، وأعمالَهم ويزكوها: (لعلّهم بلقاء ربّهم يُؤمِنُون).
هذا، ويمكن أن يُقال: إِذا كانت شريعة موسى شريعةً كاملةً (كما يُستفاد من كلمة "تماماً") فما الحاجة إِلى شريعة عيسى، وإِلى الشريعة الإِسلامية؟
ولكن يجب أن يُعْلَم أنَّ كلّ شريعة من الشرائع إِنّما تكون شريعة جامعة وكاملة بالنسبة لعصرها، ومن المستحيل أن تنزل شريعة ناقصة من جانب الله تعالى.
بيد أنّ هذه الشريعة التي تكون كاملةً بالنسبة إِلى عصر معيَّن يمكن أن تكون ناقصةً غير كاملة بالنسبة إِلى العصور اللاحقة، كما أنّ البرنامجَ الكاملَ الجامعَ المُعَدّ لمرحلة الدراسة الإِبتدائية، يكون برنامجاً ناقصاً بالنسبة إِلى مرحلة الدراسة المتوّسطة، وهذا هو السرّ في إِرسال الأنبياء المتعددين بالكتب السماويّة المختلفة المتنوعة حتى ينتهي الأمرُ إِلى آخر الأنبياء وآخر التعاليم.
نعم إِذ تَهيّأ البشر لتلقّي التعاليم النهائية، وصدرت إِليهم تلك التعاليم والأوامر، لم يبق حاجةٌ - بعد ذلك - إِلى دين جديد، وكان شأنهم حينئذ شأنَ المتخّرجين الذين يمكنهم بما عندهم من معلومات الحصول على نجاحات علمية عن طريق المطالعة والتأمل.
إِن أتباع مثل هذه الشريعة، ومثل هذا الدين (النهائي) لن يحتاجوا إِلى دين جديد، وإِنّما يكتسبون طاقة حركتهم وتقدمهم من نفس ذلك الدين الإِلهي.
كما أنّه يُستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ القضايا المرتبطة بالقيامة قد وردت في التّوراة الأصلية بالقدر الكافي.
وإِذا لم نلاحظ اشارة إِلى قضايا الحشر والمعاد في التّوراة الفعلية والكتب الحاضرة المرتبطة بها إِلاّ نادراً، فالظاهر أنّ ذلك بسبب تحريف اليهود وأصحاب الدنيا الذين كانوا يرغبون في قلّة التحدّث في القيامة وقلّة السماع عنها.
على أنّه قد وردت في التّوراة الفعلية مع ذلك إِشارات عابرة ومختصرة إِلى مسألة القيامة، ولكنّها قليلة إِلى درجة دفع بالبعض إِلى القول: إنّ اليهود لا يعتقدون بالمعاد والقيامة أساساً، ولكن هذا الكلام أشبه بالمبالغة من الواقع والحقيقة.
كما أنّه يجب أيضاً أن نلفت نظر القارىء إِلى أنّ المراد من القاء الله الذي ورد في الآيات القرآنية ليس هو اللقاء الحسي والرؤية البصرية، بل المرادُ هو نوعٌ من الشهود الباطني، واللقاء الروحاني، الذي يتحقق في يوم القيامة على أثر التكامل الإِنساني الحاصل للأشخاص، أو المقصود منه هو: مشاهدة الثوابِ والعقابِ في العالم الآخرَ.
الآية اللاحقة تشير إِلى نزول القرآن وتعليماته القيمة، وبذلك أكملت البحث المطروح في الآية السابقة، يقول تعالى: (وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ) فهذا الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة، عظيم البركة، وهو المنبع لكلِّ أنواع الخير والبركة.
ولمّا كان الأمر كذلك وَجَبَ اتباعه بصورة كاملة، ووجب التزودُ بالتقوى، والتجنبُ عن مخالفته، لتشملَكم رحمة الله ولطفه (فَاتَّبعوهُ واتّقوا اللهَ لَعَلَّكُم تَرحَمونَ).
وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التَملُّص والفرار في وجه المشركين، فقال لهم أوّلا: لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا: لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين، وليس تَمرّدنا على أوامر الله لكونها موجودة عند غيرنا من الاُمَم، ولم يبلغنا منها شيء: (أنّ تقولوا إِنّما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين) (1).
ثمّ إِنه سبحانه ينقل عنهم - في الآية اللاحقة - نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع، ومقروناً هذه المرّة بنوع أشدّ من الغرور والصَّلَف وهو: أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكانَ من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر إِستعداداً من أية أُمّة أُخرى لقبول الأمر الإِلهي: (أو تقولوا لو أنا أُنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم).
والآية المتقدّمة كانت تعكس - في الحقيقة - هذا التحجج وهو: أنّ عدم اهتدائنا إِنّما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشىء عن أنَّ هذه الكتب نزلت على الآخرين، ولم تنزل علينا.
أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإِحساس بالتفوق والإِدّعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربيّ على غيرهم.
وقد نُقِلَ نظيرُ هذا المعنى في سورة فاطر في الآية (42) عن مقالة المشركين في شكل مسألة قاطعة وليس من بابِ القضية الشرطية وذلك عندما يقول: (وأقسَموا بالله جَهدَ أيمانِهم لِئن جاءهم نذيرٌ ليكونَنَّ أهدىَ من إِحدى الأُمَم فلمّا جاءَهم نذيرٌ ما زادَهم إِلاّ نُفوراً).
وعلى أية حال فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الإِدعاءاتُ أن الله سبحانه سدّ عليكم كل سُبُل التملص والفرار، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير، لأنّ الله آتاكم كلَ الآيات، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإِلهية وبالرحمة الربانية لكم: (فقد جاءَكم بينة من ربّكم وهدىً ورحمة).
والملفتُ للنظر أنّه استعمل لفظ "البينة" بدل الكتاب السماوي، وهو إِشارة إِلى أنّ هذا الكتاب السماوي واضح المعالم، بَيّن الحقائق من جميع الجهات، ومقرونٌ بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة اللامعة.
ومع ذلك (فمن أظلم ممّن كذّبَ بآيات الله وصَدَف عنها).
و"صَدَفَ" من "الصَدْف" ويعني الإِعراض الشديد - من دون تفكير - عن شيء، وهو إِشارة إِلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب، بل كانوا يبتعدون عنها - أيضاً - من دون أن يفكروا فيها أدنى تفكير.
ربّما استُعمِلت هذه اللفظة بمعنىً آخر وهو منع الآخرين أيضاً.
وفي خاتمة هذه الآية بيّن الله تعالى العقاب الأليم الذي أُعِدَّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكروا فيها ويدرسوها ولو قليلا، بل ولا يكتفون برفضها إِنما يعمدون إِلى صدّ الآخرين عنها، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها، بَيّن كلَ ذلك في قوله الموجز والبليغ: (سنجزي الذين يَصِدِفون عَن آياتِنا سوءَ العَذَابَ بما كانوا يصدِفون).
و"سوءُ العذاب" وإِن كان بمعنى العذابَ السيء، ولكن حيث أن العذابَ السيّء عقابٌ شديدٌ وموجع للغاية في حدّ نفسه، لذلك فسَّره بعض المفسّرين بالعقاب الشديد.
ثمّ إِنّ تكرارَ لفظة "يصدفون" عند بيان جزاء الصادفين عن آيات الله لأجل توضيح هذه الحقيقة، وهي أنَّ جميع البلايا والمحن التي تصيب هذا الفريق ناشئة من كونهم يعرضون عن الحقائق من دون أدنى تفكير ودراسة، ولو أنّهم سمحوا لأنفسهم بالتفكير والدراسة - كباحث عن الحقيقة وشاك يطلب اليقين - لَما أُصيبوا بِمثل هذه العواقب الأليمة والمصير المؤلم.
1- "أن تقولوا" معناه "لئَلاّ تقولوا" ونظير ذلك كثير في لغة العرب.