الآيات 130 - 132

﴿يَـمَعْشَرَ الجِنِّ وَالاِْنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـفِرِينَ130 ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا غَـفِلُونَ131 وَلِكُلٍّ دَرَجَـتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَـفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ132﴾

التّفسير

إِتمام الحجة:

ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات السابقة ولكيلا يظن أحد أنّهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إِثم، تبيّن هذه الآيات أن تحذيرهم قد تمّ بما فيه الكفاية وتمّت عليهم الحجة، لذلك يقال لهم يوم القيامة: (يا معشر الجن والإِنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا).

"معشر" من العدد "عشرة"، وبما أن العشرة تعتبر عدداً كاملا، فالمعشر هي الجماعة الكاملة التي تضم مختلف الطوائف والأصناف، أمّا بشأن الرسل الذين بعثوا إِلى الجن هل كانوا منهم، أم من البشر؟ فهناك كلام بين المفسّرين، ولكن الذي يستفاد من آيات سورة الجن يدل بجلاء على أنّ الإِسلام والقرآن للجميع بما فيهم الجن، وأنّ نبي الإِسلام رسول الله (ص) إِلى الجميع، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إِليهم رسول الله (ص) بدعوتهم إِلى الإِسلام (سيأتي شرح ذلك بالتفصيل، وكذلك المعنى العلمي للجن في تفسير سورة الجن في الجزء 29 من القرآن الكريم).

ولكن ينبغي أن نعلم أنّ "منكم" لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من الجنس نفسه، لأنّنا عندما نقول: "نفر منكم..." يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة واحدة أو من عدّة طوائف.

ثمّ تقول الآية: (قالوا شهدنا على أنفسنا) لأنّ يوم القيامة ليس يوم الكتمان، بل إِنّ دلائل كل شيء تكون بادية للعيان، وما من أحد يستطيع أن يخفي شيئاً، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإِلهي قائلين: إِنّنا نشهد ضد أنفسنا ونعترف أنّ الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكنّنا خالفناها.

نعم... لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من الله، وكان يميزون الخطأ من الصواب، إِلاّ أنّ الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم: (وغرتهم الحياة الدنيا).

هذه الآية تدل بوضوح على أنّ العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي الحبّ اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط، ذلك الحبّ الذي كبل الإِنسان بقيود الأسر ودفعه إِلى إِرتكاب كل ألوان الظلم والعدوان والإِجحاف والأنانية والطغيان.

مرّة أُخرى يؤكّد القرآن أنّهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنّهم قد ساروا في طريق الكفر ووقفوا إِلى جانب منكري الله: (وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين).

الآية التّالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنة ثابتة، وهي: أنّ الله لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إِذا كانوا غافلين، إِلاّ بعد أن يرسل إِليهم الرسل لينبهوهم إِلى قبيح أعمالهم، ويحذروهم من مغبة أفعالهم: (ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون).

قد تعني "بظلم" أنّ الله لا يعاقب أحداً بسبب ظلمه وهو غافل عنه، وقبل أن يرسل الرسل، وقد تكون بمعنى أنّ الله لا يظلم أحداً بأن يعاقبه عمّا فعل وهو غافل، لأنّ معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلماً، والله أرفع من أن يظلم أحداً (1).

وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير وتقرر أنّ لكل من هؤلاء - الأخيار والأشرار، المطيعين والعصاة، طالبي العدالة والظالمين - درجات ومراتب يوم القيامة تبعاً لأعمالهم، وإِن ربك لا يغفل عن أعمالهم، بل يعلمها جميعاً، ويجزي كلا بقدر ما يستحق: (ولكل درجات ممّا عملوا وما ربّك بغافل عمّا يعملون).

هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى الحقيقة القائلة بأنّ جميع "الدّرجات" و"الدّركات" التي يستحقها الإِنسان إِنّما هي وليدة أعماله، لا غير.


1- في الحالة الأُولى فاعل "ظلم" هم الكافرون، وفي الحالة الثانية يكون نفي الظلم عن الله تعالى.