الآيتان 128 - 129
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَـمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الاِْنسِ وَقَالَ أَوْلَيَآؤُهُم مِّنَ الاِْنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَكُمْ خَـلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ128 وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـلِمِينَ بَعْضَاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ129﴾
التّفسير
تعود هاتان الآيتان إِلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما بحث في السابق، فتذكّران بيوم يقفون فيه وجهاً لوجه أمام الشياطين الذين كانوا يستلهمون منهم، فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالا لا جواب لديهم عليه، ولا ينالون سوى التحسر والحزن، إنّها تحذيرات للإِنسان كيلا ينظر فقط إِلى أيّامه المعدودات على الأرض، بل عليه أن يفكر بالعاقبة.
تذكر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإِنس، ثمّ يقال يا أيّها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيراً من الناس: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإِنس) (1).
"الجن" هنا هم الشياطين، لأن كلمة الجن - كما سبق أن قلنا - تشمل كل كائن غير مرئي والآية (50) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين، إِبليس إنّه (كان من الجن).
الآيات السابقة التي تحدثت عن وسوسة الشياطين الهامسة (إنّ الشياطين ليوحون إِلى أوليائهم)، وكذلك الآية التّالية التي تحدثت عن سيطرة بعض الظالمين على الآخرين، قد تكون إِشارة إِلى هذا الموضوع.
ويبدو أنّ الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون صامتين، غير أنّ أتباعهم من البشر يقولون: ربّنا، هؤلاء استفادوا منّا كما إنّنا استفدنا منهم حتى جاء أجلنا: (وقال أولياؤهم من الإِنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا).
أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا و كنّا نتبعهم مستسلمين، أمّا نحن فكنّا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشيء ولا ملتفتين إِلى سرعة زوالها، لما كان الشياطين يوسوسون به في آذاننا ويظهرونه في صور جميلة جذابة.
هنا تختلف آراء المفسّريين بشأن المقصود من كلمة "أجل"، هل هي نهاية عمر الإِنسان، أم يوم القيامة؟ ولكن الظاهر أنّ المقصود نهاية العمر لأنّ "الأجل" كثيراً ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.
غير أنّ الله يخاطب التابعين والمتبوعين الفاسدين والمفسدين جميعاً: (قال النّار مثواكم خالدين فيها إِلاّ ما شاء الله).
إِنّ الجملة الإِستثنائية (إِلاّ ما شاء الله) إِمّا أن تكون إِشارة إِلى أن خلودهم في العذاب والعقاب، و في هذه الحالات لا يسلب القدرة من الله على تغيير الحكم، فهو قادر في أي وقت يشاء أن يغير ذلك، وإن أبقاه خالداً لجمع منهم.
وإمّا أن تكون إِشارة إِلى الذين لا يستحقون الخلود في العذاب، أو الجديرون بنيل العفو الإِلهي، فيجب إِستثناؤهم من الخلود في العذاب.
وفي الختام تقول الآية: (إِنّ ربك حكيم عليم)، فعقابه مبني على حساب دقيق، وكذلك عفوه، لأنّه عالم بمن يستحقهما.
الآية التّالية تشير إِلى سنّة إِلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص، وتقرر أنّ هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر بعضهم بعضاً نحو التهلكة وسوء المصير والإِنحراف: (كذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) وكما ذكرنا في البحوث الخاصّة بالمعاد فان يوم القيامة مشهد ردود الفعل في صور مكبرة، وما يوجد هناك إِنعكاس عن أعمالنا في هذه الدنيا.
جاء في تفسير علي بن إِبراهيم القمي عن الإِمام (ع) في معنى هذه الآية قال: "أي نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة".
ومن الجدير بالملاحظة أنّ جميع هؤلاء قد وصفوا بالظلم في هذه الآية، ولا شك أنّ الظلم بمعناه الواسع يشملهم جميعاً، فأي ظلم أكبر من أن يخرج الإِنسان نفسه من ولاية الله ليداخل في ولاية المستكبرين ويتّبعهم فيكون في العالم الآخر تحت ولايتهم أيضاً.
ثمّ إِنّ هذا التعبير، وكذلك تعبير (بما كانوا يكسبون) يشيران إِلى أنّ هذا المصير السيء إِنّما هو بسبب أعمالهم، وهذه سنة إِلهية وقانون الخليقة القاضي بأنّ السائرين في الظلام لابدّ أن يسقطوا في هوة التعاسة والشقاء.
1- "يوم" ظرف متعلق بجملة "يقول" المحذوفة فيكون أصل الجملة: (يوم يحشرهم جميعاً يقول).