الآيتان 113 - 115

﴿113 أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـبَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ114 وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾

التّفسير

هذه الآية في الواقع هي نتيجة الآيات السابقة، إِذ تقول: بعد كل تلك الأدلة والآيات الواضحة التي تؤكّد التوحيد: (أفغير الله ابتغي حكماً) (1) ؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل إِحتياجات الإِنسان التربوية، وما يميز بين الحق والباطل والنّور والظلمة، والكفر والإِيمان: (وهو الذي أنزل إِليكم الكتاب مفصلا).

وليس الرّسول والمسلمون وحدهم يعلمون أنّ هذا الكتاب قد نزل من الله، بل إِنّ أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضاً، لأنّ علائم هذا الكتاب السماوي قرؤوها في كتبهم ويعلمون أنّه نزل من الله بالحق: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك بالحق).

وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه، وكذلك أنت أيّها النّبي لا تشك فيه أبداً، (فلا تكونن من الممترين).

هنا يبرز هذا السؤال: هل كان النّبي (ص) يداخله أدنى شك ليخاطب بمثل هذا القول؟

والجواب: هو ما سبق أن قلناه في مثل هذه الحالات، وهو أن المخاطب في الحقيقة هم الناس، وما مخاطبة النّبي مباشرة إِلاّ لتوكيد الموضوع وترسيخه، وليكون التحذير للناس أقوى وأبلغ.

الآية التّالية تقول: (وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).

"الكلمة" بمعنى القول، وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولا كان أم موجزاً، وقد تطلق على الوعد، كما في الآية: (وتمّت كلمة ربّك على بني إِسرائيل بما صبروا) (2)، لأنّ الشخص عندما يعد يتلفظ ببعض الكلمات المتضمنة لمفهوم الوعد.

وقد تأتي بمعنى الدين والحكم والأمر للسبب نفسه.

أمّا بالنسبة لإستعمالها في هذه الآية فقيل إِنّها تعني القرآن، وقيل إِنّها دين الله، وقيل: وعد النصر الذي وعد الله نبيّه (ص).

وليس بين هذه تعارض، فقد تكون الآية أرادت هذه المعاني جميعاً، ولأنّ الآيات السابقة كانت تشير إِلى القرآن، فتفسير الكلمة بالقرآن أقرب.

فيكون معنى الآية إِذن: إِنّ القرآن ليس موضع شك بأيّ شكل من الأشكال، فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق، وكل أحكامه وقوانينه عدل.

وربّما يكون معنى "كلمة" هنا هو الوعد الذي جاء في العبارة التّالية (لا مبدل لكلماته) إذ يتكرر هذا التعبير في القرآن الكريم كقوله تعالى: (وتمّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجنّة والناس أجمعين) (3) وقوله سبحانه (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنّهم لهم المنصورون) (4)، في أمثال هذه الآيات تكون الآية التّالية بياناً للوعد الذي ورد من قبل تحت لفظة "كلمة".

وعلى ذلك يكون معنى الآية: لقد تحقق وعدنا بالصدق وبالعدل، وهو أنّه ليس لأحد القدرة على تبديل أحكام الله.

وقد تتضمن الآية كل هذه المعاني.

وإِذا كانت الآية تعني القرآن، فذلك لا يتعارض مع كون القرآن لم يكن قد إِكتمل نزوله حينذاك، إِذ المقصود هو أن ما نزل منه كان متكاملا ولا عيب فيه.

ويستند بعض المفسّرين إِلى هذه الآية لاثبات عدم تحريف القرآن، لأنّ تعبير (لا مبدل لكلماته) تعني أنّ أحداً لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلا أو تغييراً، لا في لفظه، ولا في إِخباره، ولا في أحكامه، وأنّ هذا الكتاب السماوي الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هادياً للناس سيبقى محفوظاً ومصوناً من أغراض الخائنين والمحرفين.


1- "الحَكم" القاضي والحاكم، وبعضهم يراه مساوياً للحاكم من حيث المعنى، ولكن يرى بعضهم، ومنهم الشيخ الطوسي(رحمه الله)، أنّ الحكم من لا يحكم بغير الحق، أمّا الحاكم فقد يحكم بكليهما، ويرى آخرون، ومنهم صاحب المنار أنّ الحكم من يختاره الطرفان للحكم، وليس الحاكم كذلك.

2- الأعراف، 136.

3- هود، 119.

4- الصافات، 171 و172.