الآيتان 111 - 112

﴿111 وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَـطِينَ الاِْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ112 وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ﴾

التّفسير

وساوس الشياطين:

تشير هذه الآية إِلى أنّ أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين المتعصبين الذين أشارت إِليهم الآيات السابقة، لم يقتصر وجودهم على عهد نبي الإِسلام (ص)، بل إِنّ الأنبياء السابقين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإِنس والجن: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن)، لا عمل لهم سوى الكلام المنمق الخادع يستغفل به بعضهم بعضاً، يلقونه في غموض أو يهمس به بعض لبعض: (يوحي بعضهم إِلى بعض زخرف القول غروراً).

ولكن: لو أراد الله لمنع هؤلاء بالإِكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء: (ولو شاء ربّك ما فعلوه).

بيد أنّ الله لم يشأ ذلك، لأنّه أراد أن يكون الناس أحراراً، وليكون هناك مجال لإِختبارهم وتكاملهم وتربيتهم، إِنّ سلب الحرية والإِكراه لا يأتلف مع هذه الأغراض، ثمّ إنّ وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر المؤمنين الصادقين، شيئاً، بل يؤدي بشكل غير مباشر إِلى تكامل الجماعة المؤمنة، لأنّ التكامل يسير عبر التضاد، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة الطاقات البشرية وتقوية الإِرادة.

لذلك يأمر الله نبيّه في آخر السورة أن لا يلقى بالا إِلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية: (فذرهم وما يفترون).

ملاحظات

نسترعي الإِنتباه إِلى النقاط التّالية:

1 - في هذه الآية ينسب الله إِلى نفسه وجود شياطين الإِنس والجن في قبال الأنبياء بقوله: (وكذلك جعلنا...) واختلف المفسّرون في معنى هذه العبارة، ولكن كما سبق أن شرحنا جميع أعمال الناس يمكن أن تنسب إِلى الله، لأنّ ما يملكه الناس انّما هو من الله، فقدرتهم منه، وكذلك حرية إِختيارهم وإِرادتهم، لذلك فان أمثال هذه التعبيرات لا يمكن أن تعني سلب حرية الإِنسان واختياره، ولا أنّ الله قد خلق بعض الناس ليتخذوا موقف العداء من الأنبياء، إِذ لو كان الأمر كذلك لما توجهت إِليهم أية مسؤولية بشأن عدائهم للأنبياء، لأنّ عملهم في هذه الحالة يعتبر تنفيذاً لرسالتهم، والأمر ليس كذلك... بالطبع.

ولا يمكن إِنكار ما لوجود أمثال هؤلاء الأعداء - المختارين طبعاً - من أثر بنّاء غير مباشر في تكامل المؤمنين، وبتعبير آخر: يستطيع المؤمنون الصادقون أن ينتزعوا من وجود الأعداء أثراً إِيجابياً متخذين منه وسيلة لرفع مستواهم ووعيهم وإِعدادهم للمقاومة، لأنّ وجود العدو يحفز الإِنسان لاستجماع قواه.

2 - للشياطين (جمع شيطان) معنى واسع يشمل كل طاغ معاند مؤذ، لذلك يطلق القرآن على الوضيع الخبيث الطاغي من البشر اسم الشيطان، كما نلاحظ في هذه الآية حيث ذكر شياطين الإِنس وغير الإنس الذين لا نراهم، أمّا "إِبليس"

فهو اسم خاص للشيطان الذي وقف بوجه آدم (ع) وهو في الحقيقة رئيس جميع الشياطين، وعليه فالشيطان اسم جنس، وإِبليس اسم علم خاص (1).

3 - (زخرف القول) يعني الكلام المعسول الخادع الذي يعجبك ظاهره وهو في الباطن قبيح (2) و"الغرور" هو الغفلة في اليقظة.

4 - تعبير (يوحي بعضهم إِلى بعض) فيه إِشارة لطيفة إِلى أنّهم في أقوالهم وأفعالهم الشيطانية يرسمون خططاً غامضة يبتادلونها فيها بينهم سرّاً لئلا يعرف الناس شيئاً عن أعمالهم حتى ينفذوا خططهم كاملة، أنّ من معاني "الوحي" الهمس في الأذن.

الآية التّالية تشير إِلى نتيجة كلام الشياطين المزخرف الخادع فتقول: أخيراً سيستمع الذين لا إِيمان لهم - أي الذين لا يؤمنون بيوم القيامة - إِلى تلك الأقوال وتميل قلوبهم إِليها: (ولتصغي إِليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) (3).

"لتصغى" من "الصغو" وهو الميل إِلى شيء، ولكنّه في الأغلب ميل ناشيء عن طريق السمع، فإِذا استمع أحد إِلى كلام مع الموافقة، فهو "الصغو" و"الإِصغاء".

ثمّ يقول: إِنّ نهاية هذا الميل هو الرضا التام - بالمناهج الشيطانية (وليرضوه).

وختام كل ذلك كان إِرتكاب أنواع الذنوب والأعمال القبيحة: (وليقترفوا ما هم مقترفون).


1- انظر المجلد الأوّل بهذا الشأن.

2- "زخرف" تعني أصلا الزينة والذهب الذي يستخدم للزينة، ثمّ أُطلقت على الكلام ذي الظاهر الجميل المزين.

3- يختلف المفسّرون في إعراب هذه الآية، وفي ما عطفت عليه جملة "ولتصغي" أمّا الأقرب إِلى مفهوم الآية فهو أن الجملة معطوفة على "يوحى" ولامها "لام العاقبة" أي إِنّ عاقبة أمر الشياطين ستكون أنّهم يوحي بعضهم إِلى بعض كلاماً خادعاً فيميل إليه الذين لا إيمان لهم، وقد تكون معطوفة على محل "غروراً" وهي مفعول لأجله (إذ أنّ الإِنسان ينخدع أوّلا ثمّ يميل إِلى ما انخدع به) فتأمل بدقّة.