الآيتان 108 - 109

﴿108 وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ لَئِنْ جَآءَتْهُم ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاَْيَـتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ109 وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

سبب النّزول

قيل في نزول هذه الآية: إِنّ قريش قالت: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه إِثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أنّ ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات كي نصدقك، فقال رسول الله (ص) : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، وابعث لنا بعض موتانا، حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك، أو إِئتنا بالله والملائكة قبيلا!! فقال رسول الله (ص) : "فإن فعلت بعض ما تقولون، أتصدقونني؟" قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا.

فقام رسول الله (ص) يدعو الله تعالى أن يجعل الصفا ذهباً، فجاء جبرئيل (ع) فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولكن إِنّ لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله (ص) : "بل يتوب تائبهم" فأنزل الله تعالى الآيتين.

التّفسير

وردت في الآيات السابقة أدلة كثيرة كافية على التوحيد، وردّ الشرك وعبادة الأصنام، ومع ذلك فإِنّ فريقاً من المشركين المعاندين المتعصبين لم يرضخوا للحق، وراحوا يعترضون وينتقدون، من ذلك أنّهم أخذوا يطلبون من رسول الله (ص) القيام بخوارق عجيبة وغريبة يستحيل بعضها أساساً (مثل طلب رؤية الله)، زاعمين كذباً أنّ هدفهم من رؤية تلك المعجزات هو الإِيمان، في الآية الأُولى يقول القرآن: (اقسموا بالله جهد إِيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) (1).

وفي الردّ عليهم يشير القرآن إِلى حقيقتين: يأمر النّبي (ص) أوّلا أن يقول لهم: (قل إِنّما الآيات عند الله)، أي أن تحقيق المعجزة لا يكون وفق مشتهياتهم، بل إِنّها بيد الله وبأمره.

ثمّ يخاطب المسلمين البسطاء الذين تأثروا بإِيمان المشركين فيقول لهم: (وما يشعركم أنّها إِذا جاءت لا يؤمنون) (2) مؤكداً بذلك أنّ هؤلاء المشركين كاذبون في قسمهم.

كما أنّ مختلف المشاهد التي جرت بينهم وبين رسول الله (ص) تؤكّد حقيقة أنّهم لم يكونوا يبحثون عن الحق، بل كان هدفهم من كل ذلك أن يشغلوا الناس ويبذروا في نفوسهم الشك والتردد.

الآية التّالية تبيّن سبب عنادهم وتعصبهم، فتقول: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة) أي أنّهم بإِصرارهم على الإِنحراف والسير في طريق ملتو وتعصبهم الناشيء عن الجهل ورفض التسليم للحق، أضاعوا قدرتهم على الرؤية الصحيحة والإِدراك السليم، فراحوا يعيشون في متاهات الضلال والحيرة.

هنا أيضاً نسب هذا الفعل إِلى الله كما سبق من قبل، وهو في الواقع نتيجة أعمالهم وسوء فعالهم، وما نسبة ذلك إِلى الله إِلاّ لأنّه علّة العلل ومبدأ عالم الوجود، وكل خصيصة في أي شيء إِنّما هي بإِرادته، وبعبارة أُخرى: إِنّ الله جعل من النتائج الحتمية للعناد والتعصب الأعمى والإِنحراف أن يكون لها مثل هذا الأثر، وهو إِنحراف الإِنسان شيئاً فشيئاً في هذا الطريق، فلا يعود يدرك الأُمور إِدراكاً سليماً.

ثمّ تشير الآية في الخاتمة إِلى أنّ الله، يترك أمثال هؤلاء في حالتهم تلك لكي يشتد ضلالهم وتزداد حريتهم: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (3).

نسأل الله أن يجنبنا الإِبتلاء بمثل هذا الضلال والحيرة الناتجة عن أعمالنا السيئة، وأن يمنحنا النظرة السليمة الكاملة لكي نرى الحقيقة ناصعة لا غبش عليها.


1- "الجهد" بمعنى السعي وبذل الطاقة، والمقصود هنا الجهد في توكيد القسم.

2- المفسّرون غير متفقين على "ما"، أهي إستفهامية أم نافية؟ وكذلك فيما يتعلق بتركيب الجملة، بعضهم يقول إِنّ "ما" إستفهامية إستنكارية، ولو كانت كذلك لكان معنى الآية: أنّى لكم أن تعلموا إنّهم لا يؤمنون إن رأوا معجزة، أي إِنّه قد يؤمنون، وهذا خلاف ما تريده الآية، لذلك إعتبر بعضهم "ما" نافية، وهو الأقرب إِلى الذهن، فيكون معنى الآية: أنتم لا تعلمون إِنّهم حتى إذا تحققت لهم المعجزات لا يؤمنون، وعلى ذلك يكون فاعل "يشعر" مقدر بمعنى "شيء" وللفعل "يشعر" مفعولان "كم" و(إنها ...) (تأمل بدقّة).

3- "يعمهون" من "عمه" بمعنى الحيرة والشك.