الآيات 103 - 106
﴿103 قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ104 وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَْيَـتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْم يَعْلَمُونَ105 اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ106 وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل﴾
التّفسير
ليس من واجبك الإِكراه:
تعتبر هذه الآيات نتيجة للآيات السابقة، ففي البداية تقول: (قد جاءكم بصائر من ربّكم).
"بصائر" جمع "بصيرة" من "البصر" بمعنى الرؤية، ولكنّها في الغالب رؤية ذهنية وعقلانية، وقد تطلق على كل ما يؤدي إِلى الفهم والإِدراك، وهذه الكلمة في هذه الآيات تعني الدليل والشاهد، وتشمل جميع الدلائل التي وردت في الآيات السابقة، بل إِنّها تشمل حتى القرآن نفسه.
ثمّ لكي تبيّن أنّ هذه الأدلة والبراهين كافية لإِظهار الحقيقة لأنّها منطقية، تقول: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، أي أنّ إِبصارهم يعود بالنفع عليهم وعماهم يسبب الإِضرار بهم.
وفي نهاية الآية تقول، على لسان النّبي (ص) : (وما أنا عليكم بحفيظ).
للمفسّرين إِحتمالان في تفسير هذا المقطع من الآية:
الأوّل: إِنّي لست أنا المسؤول عن مراقبتكم والمحافظة عليكم وملاحظة أعمالكم، فالله هو الذي يحافظ على الجميع، وهو الذي يعاقب ويثيب الجميع، أنّ واجبي لا يتعدى إِبلاغ الرسالة وبذل الجهد لهداية الناس.
والآخر: أنا غير مأمور لأحملكم بالجبر والإِكراه على قبول الإِيمان، إِنّما واجبي هو أن أدعوكم إِلى ذلك بتبيان الحقائق بالمنطق والحجّة وأنتم الذين تتخذون قراركم النهائي.
وليس ما يمنع من إنطواء العبارة على كلا المعنيين.
الآية التّالية تؤكّد أنّ إِتخاذ القرار النهائي في إِختيار طريق الحقّ أو الباطل إِنّما يرجع للناس أنفسهم، وتقول: (وكذلك نصرف الآيات) (1) أي كذلك نبيّن الأدلة والبراهين بصور وأشكال متنوعة.
لكن جمعاً عارضوا، وقالوا - دونما دليل وبرهان - إِنّك تلقيت هذا من الآخرين (أي اليهود والنصارى) : (وليقولوا درست) (2).
إِلاّ أنّ جمعاً آخر ممن لهم الإِستعداد لتقبل الحق لما لهم من بصيرة وفهم وعلم، يرون وجه الحقيقة ويقبلونها: (ولنبيّنه لقوم يعلمون).
إِنّ إِتهام رسول الله (ص) بأنّه إِقتبس تعاليمه من اليهود والنصارى قد تكرر من جانب المشركين، وما يزال المعارضون المعاندون يتابعونهم في ذلك، مع أنّ حياة الجزيرة العربية لم تكن فيها مدرسة ولا درس ليتعلم منها رسول الله (ص) شيئاً، كما أنّ رحلاته إِلى خارج الجزيرة كانت قصيرة لا تدع مجالا لمثل هذا الإِحتمال، ثمّ إِنّ معلومات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يسكنون الحجاز كانت على درجة من التفاهة وتسطير الخرافات بحيث لا يمكن - أصلا - مقارنتها بما في القرآن ولا بتعاليم الرّسول (ص)، وسنشرح هذا الموضوع - إِن شاء الله - عند تفسير الآية (103) من سورة النحل.
ثمّ تبيّن الآية واجب رسول الله (ص) في قبال معاندة المعارضين وحقدهم وإِتهاماتهم، فتقول: (اتبع ما أوحي إِليك من ربّك لا إِله إِلاّ هو) ومن واجبك أيضاً الإِعراض عما يوجهه إِليك المشركون من إِفتراءات: (واعرض عن المشركين).
هذا - في الواقع - ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي (ص) لكيلا ينتاب عزمه الراسخ الصلب أي ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين.
يتبيّن ممّا قلناه بجلاء أنّ عبارة (واعرض عن المشركين) لا تتعارض مطلقاً مع الأمر بدعوتهم إِلى الإِسلام ولا مع الجهاد ضدهم، فالمقصود هو أن لا يلقى اهتماماً إِلى أقوالهم الباطلة وإِتهاماتهم الكاذبة، بل يمضي في طريقه بثبات.
الآية الأخيرة يكرر القرآن فيما - مرّة أُخرى - القول بأنّ الله لايريدأن يكره المشركين ويجبرهم على الإِسلام، إِذ لو أراد ذلك لما كان هناك أي مشرك: (ولو شاء الله ما اشركوا) كما يؤكّد القول لرسول الله (ص) : إِنّك لست مسؤولا عن أعمال هؤلاء، لأنّك لم تبعث لإِكراههم على الإِيمان: (وما جعلناك عليهم حفيظاً)، ولا من واجبك حملهم على عمل الخير: (وما أنت عليهم بوكيل).
"الحفيظ" هو من يراقب أمراً أو شخصاً ليحفظه من أن يصاب بضرر، أمّا "الوكيل" فهو من يسعى لإِحراز النفع لموكله.
لعل من المفيد أن نشير إِلى أنّ نفي هاتين الصفتين "الحفاظ والوكالة" عن رسول الله (ص) يعني نفي الإِجبار على دفع ضرر أو اجتلاب نفع، وإِلاّ فإِنّ رسول الله (ص) كان يدعوهم - ضمن تبليغه الرسالة - إِلى عمل الخير وترك الشر بصورة طوعية وإِختيارية.
إِنّ الفكرة التي تسود هذه الآيات تستلفت النظر، فهي تقول: إِنّ الإِيمان بالله وبتعاليم الإِسلام لا يكون عن طريق الإِكراه والإِجبار، بل يكون عن طريق المنطق والإِستدلال والنفوذ إِلى أفكار الناس وأرواحهم، فالإِيمان بالإِكرام لا قيمة له، لأنّ المهم هو أن يدرك الناس الحقيقة فيتقبلوها بإِرادتهم وإِختيارهم.
كثيراً ما يؤكّد القرآن حقيقة كون الإِسلام بعيداً عن كل عنف وخشونة، كتلك الأعمال التي كانت ترتكبها الكنيسة في القرون الوسطى (3)، ومحاكم تفتيش العقائد.
أمّا صلابة الإِسلام في مواجهة المشركين فسوف نبحثها - إِنّ شاء الله - في بداية تفسير سورة البراءة.
1- "نصرف" من "التصرف" وهو بمعنى رد الشيء من حالة أو إِبداله بغيره، أي أنّ الآيات تنزل في صور وأشكال متنوعة ولمختلف المستويات العقلية والعقائدية والإِجتماعية.
2- "اللام" في ليقولوا هي "لام العاقبة" لبيان العاقبة التي وصل إليها الأمر دون أن تكون هي الهدف المقصود، لقد كانت هذه تهمة يوجهها المشركون إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
3- "القرون الوسطى" هي فترة الألف سنة التي إمتدت بين القرن السادس الميلادي حتى نهاية القرن الخاس عشر، كما يطلق عليها إسم (الفترة المظلمة" التي مرت على أوروبا والمسيحية، والجدير بالذكر أنّ "العصر الذهبي الإِسلامي" يقع في منتصف القرون الوسطى.