الآيات 99 - 102

﴿99 وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَـت بِغَيْرِ عِلْم سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يَصِفُونَ100 بَدِيعُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَـحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءوَهُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ101 ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَـلِقُ كُلِّ شَىْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ102 لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَـرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾

التّفسير

خالق كل شيء:

هذه الآيات تشير إِلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة، وترد عليهم بالمنطق.

فأوّلا: قالوا: إِنّ لله شركاء من الجن (وجعلوا لله شركاء الجن).

فيما يتعلق بالجن، هل المقصود بهم هو المعنى اللغوي الذي يفيد كل كائن غير مرئي ومخفي عن حس الإِنسان، أم هم طائفة الجن التي يرد ذكرها مراراً في القرآن والتي سنشير إِليها قريباً؟ للمفسرين في هذا احتمالان.

على الإِحتمال الأوّل قد تكون الآية إِشارة إِلى الذين كانوا يعبدون الملائكة أو مخلوقات غير مرئية.

وعلى الإِحتمال الثّاني قد تكون الإِشارة إِلى الذين كانوا يعتبرون الجن شركاء لله أو زوجات له.

يقول الكلبي في كتاب "الأصنام": إِنّ إِحدى الطوائف العربية، وتدعي "بنو مليح" وهي إِحدى أفخاذ قبيلة "خزاعة" كانت تعبد الجن (1)، كما يقال إِنّ عبادة الجن والاعتقاد بالوهيتها كانت منتشرة بين مذاهب اليونان الخرافية وفي الهند (2).

ويستدل من الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً) على أنّه كان بين العرب من يرى بين الله والجن نسباً وقرابة، ويذكر بعض المفسّرين أنّ قريشاً كانت تعتقد أنّ الله قد تزوج الجن، فكان الملائكة ثمرة ذلك الزواج (3).

فينكر الإِسلام عليهم ذلك، إِذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن: (وخلقهم) أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبداً!

الخرافة الأُخرى هي قولهم جهلا - إِنّ لله بنين وبنات: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم).

أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة، هو أنّها تصدر عنهم (بغير علم) أي أنّهم لا يملكون أي دليل على هذه الأوهام.

من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة "خرقوا" من الخرق، وهو تمزيق الشيء بغير روية ولا حساب، وهي في النقطة المقابلة تماماً "للخلق" القائم على الحساب، هاتان اللفظتان: "الخلق والخرق" قد تستعملان في حالات الكذب والإِختلاق، مع اختلاف بينهما هو أن (الخلق والإِختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و (الخرق والإِختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب.

أي أنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدوا له ما يلزم من الأُمور.

أمّا الطوائف التي كانت تنسب لله البنين، فإِنّ القرآن يذكر في آيات أُخرى اسم طائفتين من هؤلاء:

الأُولى: هم المسيحيون الذين قالوا: إِنّ عيسى ابن الله.

والأُخرى: هم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله.

يستفاد من الآية (30) من سورة التوبة، وممّا توصل إِليه المحققون عن دراسة الجذور المشتركة بين المسيحية والبوذية، وعلى الأخص في موضوع التثليت، أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا إبناً لله، بل كان هذا موجوداً في المعتقدات الخرافية القديمة.

أمّا بشأن نسبة بنات لله، فالقرآن نفسه يوضح ذلك في آيات أُخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) (4).

وكما سبقت الإِشارة إِليه، جاء في التفاسير والتواريخ إنّ قريشاً كانت ترى الملائكة بنات الله من زواجه بالجن.

والقرآن يرفض تماماً في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها، وبعبارة حاسمة قاطعة: (سبحان الله وتعالى عما يصفون).

والآية التّالية ترد على تلك العقائد الخرافية فتؤكّد أنّ الله هو ذلك الذي أبدع خلق السموات والأرض: (بديع السموات والأرض).

هل هناك غير الله من فعل ذلك أو يستطيع فعله كيما يكون شريكاً له في عبادته؟ كلا، الجميع مخلوقاته ويطيعون أمره ومحتاجون إِليه.

ثمّ كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة).

وما حاجته إِلى زوجة؟ ثمّ من التي تكون زوجته وهم جميعاً مخلوقاته؟ وفضلا عن ذلك كلّه أنّ ذاته القدسية منزهة عن كل الصفات الجسمانية، بينما الحاجة إِلى زوجة وأبناء من الصفات الجسمانية المادية.

ومرّة أُخرى تؤكّد الآية مقامه باعتباره خالقاً لكل شيء، ومحيطاً بكل شيء: (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم).

الآية الثّالثة تؤكّد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق من ذكر خالقية الله لكل شيء، وإِبداعه السموات والأرض وإِيجادها، وكونه منزهاً عن الصفات والعوارض الجسمية وعن الحاجة إِلى الزوجة والأبناء وإِحاطته العلمية بكل شيء: (ذلكم الله ربّكم لا إِله إِلاّ هو خالق كل شيء فاعبدوه) فلا يستحق العبودية غيره.

ولكي ينقطع كل أمل بغير الله، وتنقلع كل جذور الشرك والإِعتماد على غير الله، تختتم الآية بالقول: (وهو على كل شيء وكيل).

أي أنّ مفتاح حل مشاكلكم بيده وحده، وما من أحد غيره قادر على حلها إِذ ما من أحد - غيره - إِلاّ وهو محتاج إِلى إِحسانه وكرمه، فلا موجب إِذن لأن تطرح مشاكلك على غيره، وتطلب حلّها من غيره.

لاحظ أنّ العبارة تقول: (على كل شيء وكيل) ولم تقل: لكلّ شيء وكيل، واختلاف المعنى واضح، لأنّ "على" تفيد التسلط ونفوذ الأمر، أمّا "اللام" فتفيد التبعية، أي أن التعبير الأوّل يدل على الولاية والرعاية، والثّاني يدل على التمثيل والوكالة.

الآية الاخيرة من الآيات مورد البحث، ومن أجل إثبات حاكمية الله وإِحاطته بكل شيء وحفاظه على كل شيء، وكذلك لإِثبات أنّه يختلف عن كل شيء، تقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) أي أنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.

في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شيء ومربيه وملجأه لابدّ أن يتصف بهذه الصفات.

كما أنّ الآية تقول: إِنّه يختلف عن جميع الأشياء في العالم، لأنّ أشياء العالم بعضها يَرى ويُرى، كالإِنسان، وبعضها لا يَرى ولا يُرى كصفاتنا الباطنية، وبعض آخر يُرى ولا يَرى، كالجمادات، فالوحيد الذي لا يُرى ولكنّه يَرى كلَّ شيء هو الله الواحد الأحد.

بحوث

هنا نشير إِلى بضع نقاط:

1 - لاتدركه الابصار:

تثبت الأدلة العقلية أنّ الله لا يمكن أن يرى بالعين، لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إِلاّ الأجسام، أو على الأصح بعضاً من كيفيات الأجسام، فإِذا لم يكن الشيء جسماً ولا كيفية من كيفيات الجسم، لا يمكن أن تراه العين، وبتعبير آخر، إِذا أمكنت رؤية شيء بالعين، فلأن لهذا الشيء حيزاً واتجاهاً وكتلة، في حين أنّ الله أرفع من أن يتصف بهذه الصفات، فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شيء.

في كثير من الآيات، وعلى الأخص في الآيات التي تشير إِلى بني إِسرائيل وطلبهم رؤية الله، نجد القرآن ينفي بكل وضوح إِمكان رؤية الله (سوف يأتي شرح ذلك في تفسير الآية 143 من سورة الأعراف إِن شاء الله).

ومن العجيب أنّ كثيراً من أهل السنة يعتقدون أنّ الله سيرى يوم القيامة، ويعبر صاحب تفسير المنار عن ذلك بقوله: هذا من مذاهب أهل السنة والعلم بالحديث. (5).

والأعجب من ذلك أنّ بعض المحققين المعاصرين الواعين يميلون - أيضاً - إِلى هذا الإِتجاه ويصرون عليه!

أمّا الواقع فإِنّ بطلان هذه الفكرة إِلى درجة من الوضوح بحيث لا يستوجب نقاشاً، لأنّ الأمر لا يختلف بين الدنيا والآخرة (إِذا قلنا بالمعاد الجسماني)، إِنّ الله فوق المادة، ولا يتبدل يوم القيامة إِلى وجود مادي، ولا يخرج من لا محدوديته ليصبح محدوداً، ولا يتحول في ذلك اليوم إِلى جسم أو إِلى كيفية من كيفيات الجسم! وهل الأدلة العقلية على عدم إِمكان رؤية الله في الدنيا هي غيرها في الآخرة"؟ أم هل يتغير حكم العقل بهذا الشأن يومذاك؟!

ولا يمكن تبرير هذه الفكرة بأنّ من المحتمل أن يصبح للإِنسان في الآخرة نوع آخر من الرؤية والإِدراك، لأنّ هذه الرؤية والإِدراك إِذا كانت في الآخرة فكرية وعقلانية، فإنّنا في هذه الدنيا أيضاً نشاهد الله وجماله بعين القلب وقوة العقل، أمّا إِذا كانت الرؤية هي نفسها التي نرى بها الأجسام، فإِنّ رؤية الله بهذا المعنى مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء.

وبناء على ذلك فإِنّ القول بأنّ الإِنسان لا يرى الله في هذه الدنيا، ولكن المؤمنين يرونه يوم القيامة غير منطقي وغير مقبول.

إنّ ما حمل هؤلاء على الذهاب إِلى هذا المذهب والدفاع عنه هو وجود أحاديث في كتبهم المعروفة تقول بإِمكان رؤية الله يوم القيامة، ولكن أليس من الأفضل أن نقول ببطلان هذا الرأي بالدليل العقلي، ونحكم باختلاق أمثال هذه الرّوايات وعدم اعتبار الكتب التي أوردت مثل هذه الرّوايات، (اللهم إِلاّ إِذا قلنا أنّ المقصود من هذه الرؤية هي الرؤية القلبية) هل يصح أن نجانب حكم العقل والحكمة من أجل أمثال هذه الأحاديث؟!

أمّا الآيات القرآنية التي يبدو منها لأوّل وهلة أنّها تدل على رؤية، مثل (وجوه يومئذ ناضرة إِلى ربّها ناظرة) (6) و (يد الله فوق أيديهم) (7) فإِنّها من باب الكناية والرمز، إِنّنا نعلم أنّ أية آية قرآنية لا يمكن أن تخالف حكم العقل ومنطق الحكمة.

والملفت للنظر أنّ الأحاديث والرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تستنكر هذه العقيدة الخرافية أشد إستنكار، وتنتقد القائلين بها أشد إِنتقاد، من ذلك أنّ أحد أصحاب الإِمام الصّادق (ع) واسمه (هشام) يقول: كنت عند الإِمام الصّادق (ع) فدخل عليه معاوية بن وهب (وهو من أصحاب الإِمام أيضاً) وسأله قائلا: يا بن رسول الله، ما قولك في ما جاء بشأن رسول الله (ص) أنّه قد رأى الله، فكيف رآه؟ وكذلك في الحديث المروي عنه أنّه (ص) قال: إِنّ المؤمنين في الجنّة يرون الله.

فبأي شكل يرونه؟ فتبسم الإِمام الصّادق إِبتسامة ألم، وقال: "يا معاوية بن وهب! ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله، ويتنعم بنعمه، ثمّ لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية، إنّ رسول الله (ص) لم ير الله رأي العين أبداً، إِنّ المشاهدة نوعان: المشاهدة القلبية، والمشاهدة البصرية، فمن قال بالمشاهدة القلبية فقد صدق، ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإِنّ رسول الله (ص) قال: من شبه الله بالبشر فقد كفر" (8).

وفي (أمالي الصدوق) بإِسناده إِلى إِسماعيل بن الفضل قال: سألت الإِمام الصّادق (ع) عن الله تبارك وتعالى، وهل يرى في المعاد؟ فقال: "سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يا ابن الفضل، إنّ الأبصار لا تدرك إِلاّ ما له لون وكيفية، والله تعالى خالق الألوان والكيفية" (9).

من الجدير بالإِنتباه أنّ هذا الحديث يؤكّد كلمة "لون" ونحن اليوم نعلم أنّ الجسم بذاته لا يرى مطلقاً، وإِنما الذي نراه هو لونه، فإِذا لم يكن للجسم أي لون فلن يرى.

(في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحث بهذا الشأن في تفسير الآية (46) من سورة البقرة).

2 - الله خالق كل شيء

بعض المفسّرين من أهل السنة، ممن يذهب إِلى الجبر يتخذ من قوله تعالى (خالق كل شيء) دليلا على صحة مذهبهم في الجبر، فيقول: إِنّ أعمالنا وأفعالنا من "اشياء" هذا العالم أيضاً، لأنّ كلمة "شيء" تطلق على كل ذي وجود، مادياً كان أم غير مادي، وسواء كان من الذوات أم من الصفات، وعليه عندما نقول: إِنّ الله خالق كل شيء، لابدّ لنا أن نقبل أيضاً بأنّه خالق أفعالنا، وهذا هو الجبر بعينه.

بيد أنّ القائلين بحرية الإِرادة والإِختيار يردون بجواب واضح على أمثال هذه الإِستدلالات، وهو أنّ خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حريتنا في الإِختيار، إِذ أنّ أفعالنا يمكن أن تنسب إِلينا وإِلى الله، فنسبتها إِلى الله قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا، فهو الذي وهبنا القوة والقدرة والإِراده والإِختيار، فما دامت جميع المقدمات من خلقه، فيمكن أن تنسب أفعالنا إِليه بإِعتباره خالقها، ولكن من حيث إِتخاذ القرار النهائي فإِننا بالإِستفادة ممّا وهبه الله لنا من القدرة على الإِرادة والإِختيار نتخذ القرار بأداء الفعل أو تركه، فمن هنا تنسب هذه الأفعال إِلينا ونكون مسؤولين عنها.

وبتعبير الفلاسفة: لايوجد في هذا المقام علّتان أو خالقان للفعل في عرض واحد.

بل هما ممتدتان طولا، لأنّ وجود علّتين تامّتين في عرض واحد لا معنى له، لكنّهما إِذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك، ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي وهبها الله لنا، فيمكن أن ننسب هذه المتستلزمات إِليه أيضاً، إِضافة إِلى نسبتها إِلى فاعلها.

هذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم وإختياراتهم، ويهيء لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل، فطبيعي أن تعتبر أفعالهم منسوبة إِلى ربّ العمل، ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل والإِختيار، بل يكونون مسؤولين عن أعمالهم.

وسنبحث فكرة الجبر والإِختيار - إِن شاء الله - بالتفصيل عند تفسير الآيات المرتبطة بالموضوع.

3 - ما معنى "بديع"؟

سبق أن ذكرنا أن "بديع" تعني موجد الشيء بغير سابق وجود، أي أنّ الله أوجد السموات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.

هنا يعترض بعضهم بقوله: كيف يمكن إِيجاد شيء من عدم ونحن قد بحثنا هذا في تفسير الآية (117) من سورة البقرة، وذكرنا ما ملخصه: إِنّنا عندما نقول إِنّ الله أوجد الأشياء من العدم لا نعني أنّ المادة الأولية لخلقها هي "العدم" مثلما نقول: إِنّ النجار صنع الكرسي من الخشب، فهذا بالطبع مستحيل، لأنّ "العدم" لا يمكن أن يكون مادة "الوجود".

إِنّما المقصود هو أنّ موجودات هذا العالم لم تكن موجودة من قبل، ثمّ وجدت، وليس في هذا ما يصعب فهمه، وقد ضربنا لذلك أمثلة في تفسير آية (117) من سورة البقرة، ونضيف هنا قائلين: إِنّنا قادرون على أن نوجد في أذهاننا أشياء لم تكن فيها من قبل مطلقاً، ولا شك أنّ لهذه الموجودات الذهنية نوعاً من الوجود والكينونة، رغم أنّه ليس وجوداً خارجياً، ولكنّها موجودة في أُفق أذهاننا، وإِذا كان وجود الشيء بعد العدم مستحيلا، فما الفرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؟

وبناءً على ذلك فإِنّنا كما نستطيع أن نخلق في أذهاننا كائنات لم يكن لهم وجود من قبل، كذلك يفعل الله ذلك في العالم الخارجي، انّ قليلا من التأمل في هذا المثال أو في الأمثلة التي ضربناها هناك كاف لحل هذه المسألة.

4 - ما معنى "اللطيف"؟

"اللطيف" من مادة "لطف" وقد وردت هذه الصفة في الآيات السابقة كاحدى الصفات الالهية، واللطيف (10) إِذا وصف به الجسم دل على الخفيف المضاد للثقيل، ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأُمور الدقيقة التي قد لا تدركها الحواس، ويصح أن يكون وصف الله تعالى باللطف على هذا الوجه لمعرفته بدقائق الأُمور، ولخلقه أشياء دقيقة لطيفة غير مرئية، وتتسم افعاله بالدقة المتناهية الخارجة عن قدرة الادراك.

يروي (الفتح بن يزيد الجرجاني) حديثاً عن الإِمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) يعتبر معجزة علمية في هذا المجال يقول: قال الإِمام (ع) : "... إِنّما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف، أو لا ترى - وفقك الله وثبتك - إِلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأُنثى، والحدث المولود من القديم، لما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإِفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إِليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأنّ كل صانع شيء فمن شيء صنعه والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء".

إِنّ هذا الحديث الذي يشير إِلى الجراثيم والكائنات المجهرية قبل أن يولد (پاستور) بقرون يفسر معنى اللطيف.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود من اللطيف هو أنّ ذاته المقدسة من اللطافة بحيث لا تدرك بالحواس، وعليه فإِنّه "اللطيف" لأنّ أحداً لا علم له به، وهو "الخبير" لأنّه عالم بكل شيء.

وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً (11) وليس هناك ما يمنع من إِرادة المعنيين من هذه الكلمة.


1- تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 326 ـ الهامش.

2- تفسير المنار، ج 8، ص 648.

3- تفسير معجم البيان وتفاسير أُخرى.

4- الزخرف، 19.

5- تفسير المنار، ج 7، ص 653.

6- القيامة، و24.

7- الفتح، 10.

8- معاني الأخبار، نقلا عن "الميزان"، ج 8، ص 268.

9- نور الثقلين، ج 1، ص 753.

10- أصول الكافي، ج 1، ص 93.

11- تفسير البرهان، ج 1، ص 548.