الآيتان 97 - 98
﴿97 وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْس وَحِدَة فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَفْقَهُونَ98 وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـت مِّنْ أَعْنَاب وَالزَّيْتُونَ وَالرَّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـبِه انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَوَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لاََيَـت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ﴾
التّفسير
هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة الله، والوصول إِلى هذا الهدف يأخذ القرآن بيد الإِنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل ذاته ويبيّن له آثار الله في جسمه وروحه، فيتيح له أن يرى الله في كل مكان.
فيبدأ بالقول: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة).
أي أنّكم، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم، قد خلقتم من فرد واحد، وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة.
وجدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإِنسان بالإِنشاء، والكلمة لغوياً تعني الإِيجاد والإِبداع مع التربية، أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم، ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئاً ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة، ولكنّه إِذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها، ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة، عندئذ يكون قد أظهر حقّاً عظمته وسعة رحمته.
بهذه المناسبة ينبغي ألا نتوهّم من قراءة هذه الآية، أنّ أُمَّنا الأُولى حواء قد خُلقت من آدم (كما جاء في الفصل الثّاني من سفر التكوين من التّوراة)، ولكن آدم وحواء خلقا من تراب واحد، وكلاهما من جنس واحد ونوع واحد، لذلك قال: إِنّهما خلقا من نفس واحدة، وقد بحثنا هذا الموضوع في بداية تفسير سورة النساء.
ثمّ يقول: إِنّ فريقاً من البشر "مستقر" وفريقاً آخر "مستودع" (فمستقر ومستودع).
"المستقر" أصله من "القُر" (بضم القاف) بمعنى البرد، ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة، فمعنى "مستقر" هو الثابت المكين.
و"مستودع" من "ودع" بمعنى ترك، كما تستعمل بمعنى غير المستقر، والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إِلى صاحبها.
يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض "مستقر" أي ثابت، وبعض "مستودع" أي غير ثابت، أمّا المقصود من هذين التعبيرين، فالكلام كثير بين المفسّرين، وبعض التفاسير تبدو أقرب إِلى الآية كما أنّها لا تتعارض فيما بينها.
من هذه التفاسير القول بأنّ "مستقر" صفة الذين كمل خلقهم ودخلوا "مستقر الرحم" أم مستقر وجه الأرض، و"المستودع" صفة الذين لم يكتمل خلقهم بعد وإنّما هو ما يزالون نطفاً في أصلاب آبائهم.
تفسير آخر يقول: إِنّ "مستقر" إِشارة إِلى روح الإِنسان الثابتة والمستقرة، و"مستودع" إِشارة إِلى جسم الإِنسان الفاني غير الثابت.
وقد جاء في بعض الرّوايات تفسير معنوي بهذين التعبيرين، وهو أنّ "مستقر" تعني الذين لهم إِيمان ثابت "ومستودع" تعني من لم يستقر إِيمانة (1).
وثمّة احتمال أن يكون هذان التعبيران إِشارة إِلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإِنسان، إِنّ النطفة - كما نعلم - تتركب من جزئين: الأوّل هو "البويضة" من الأُنثى، والثاني هو "الحُيمن" أو "المني" من الذكر، أنّ البويضة في رحم الأُنثى تكان تكون مستقر، ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها، وما أن يصل أوّل حيمن إِلى البويضة حتى يمتزج بها و"يخصبها" ويصد (الحيامن) الأُخرى، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإِنسان الأولى.
وفي ختام الآية يعود فيقول: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون).
عند الرجوع إِلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ "الفقه" ليس كل معرفة أو فهم، بل هو التوصل إِلى علم غائب بعلم حاضر (2)، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإِنسان واختلاف أشكاله وألوانه، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إِلى معرفة الخالق.
الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب عالم الخلق وتهدينا إِلى معرفة الله بمعرفة مخلوقاته.
في البداية تشير الآية إِلى واحدة من أهم نعم الله التي يمكن أن تعتبر النعمة الأُم وأصل النعم الأُخرى، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت من السماء: (وهو الذي أنزل من السماء ماء).
وإِنّما قال (من السماء) لأنّ سماء كل شيء أعلاه، فكل ما في الأرض من مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء، وقلّة الأمطار تؤثر في كمية المياه في تلك المصادر كلها، وإِذا استمر الجفاف جفّت تلك المنابع، أيضاً.
ثمّ تشير إِلى أثر نزول الأمطار البارز: (فأخرجنا به نبات كل شيء).
يرى المفسّرون احتمالين في المقصود من (نبات كل شيء) :
الأوّل: إِنّ المقصود من ذلك كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء واحد، وتنبت في أرض واحدة وتتعذى من تربة واحدة، وهذه واحدة من عجائب الخلق، كيف تخرج كل هذه الأصناف من النباتات بأشكالها وألوانها وأثمارها المختلفة والمتباينة أحياناً من أرض واحدة وماء واحد!
والإِحتمال الثّاني: هو أنّ النباتات يحتاج إِليها كل مخلوق آخر من حشرات وطيور وحيوانات في البحر والبر، وانّه لمن العجيب أنّ الله تعالى يخرج من أرض واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء، وهذا من روائع الأعمال المعجزة كأنّ يستطيع أحد أن يصنع من مادة معينة في المطبخ آلاف الأنواع من الأطعمة لآلاف الأذواق والأمزجة.
والأعجب من كل هذا أنّ نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو ببركة ماء المطر، بل إِنّ النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.
ولا أنسى ما قاله أحد سكّان المدن الساحلية وهو يشكو قلّة الصيد في البحر، ويذكر سبب ذلك بأنّه الجفاف وقلّة نزول المطر، فكان يعتقد أنّ قطرات المطر في البحار أشد تأثيراً منها في اليابسة.
ثمّ تشرح الآية ذلك وتضرب مثلا ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء، فتذكر أنّ الله يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض، ومن تلك الحبّة الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين: (فأخرجنا منه خضراً) (3).
ومن ذلك الساق الأخضر أخرجنا الحبّ متراصفاً منظماً: (نخرج منه حبّاً متراكباً) (4).
وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعاً مغلقاً، ثمّ يتشقق فتخرج الاعذاق بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبات التمر، فتتدلى من ثقلها: (ومن النخل من طلعها قنوان دانية).
"الطلع" هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر، وإِذ ينفتح الطلع تخرج منه أغصان العذق الرفيعة، وهي القنوان ومفردها قنو.
و"دانية" أي قريبة، وقد يكون ذلك إِشارة إِلى قرب أغصان العذق من بعضها، أو إِلى أنّها تميل نحو الأرض لثقلها.
وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه: (وجنات من أعناب والزيتون والرّمان).
ثمّ تشير الآية إِلى واحدة أُخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار، فتقول: (مشتبهاً وغير متشابه).
انظر تفسير الآية (141) من هذه السورة في شرح المتشابه وغير المتشابه للزّيتون والرّمان (5).
إِنّ شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين الأغصان وهيئة الأوراق تشابهاً كبيراً، مع أنّهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده مختلفتان، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر، وفي الرمان مادة حامضية أو سكرية، فهما متباينان تماماً، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة، وتشربان من ماء واحد، فهما متشابهان وغير متشابهين في آن واحد.
ومن المحتمل أنّ تكون الإِشارة إِلى أنواع مختلفة من أشجار الفاكهة التي يتشابه بعضها في الشجر وفي الثمر، ويختلف بعضها عن الآخر في ذلك، (أي أنّ كل واحدة من هاتين الصفتين تختص بمجموعة من الأشجار والأثمار، أمّا حسب التّفسير الأوّل، فإِنّ الصفتين لشيء واحد).
ثمّ تركز الآية من بين مجموع اجزاء شجرة على ثمرة الشجرة وعلى تركيب الثمرة إِذا أثمرت، وكذلك على نضج الثمرة إِذا نضجت، ففيها دلائل واضحة على قدرة الله وحكمته للمؤمنين من الناس: (انظروا إلى ثمره إِذا أثمر وينعه إِنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون).
ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن الأهمية الخاصّة التي يوليها القرآن للأثمار، إِذ إِنّ ظهور الثمرة في عالم النبات أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس خاصّة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم الأُنثوي في النبات، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الأُولى، وتحيط بها مواد غذائية مشابهة لتركيبها، أنّ هذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبية.
فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان) فيها مئات من الحبّ، كل حبّة منها تعتبر جنيناً وبذرة لشجرة أُخرى، ولها تركيب معقد عجيب.
إِنّ شرح بنية الأثمار والمواد الغذائية والطبية خارج عن نطاق هذا البحث، ولكن من الحسن أنّ نضرب مثلا بثمرة الرمان التي أشار إِليها القرآن على وجه الخصوص في هذه الآية.
إِذا شققنا رمانة وأخذنا إِحدى حباتها نظرنا خلالها بإِتجاه الشمس أو مصدر ضوء آخر نجدها تتألف من أقسام أصغر، وكأنّها قوارير صغيرة مملوءة بماء الرّمان قد رصفت الواحدة إِلى جنب الأُخرى.
ففي حبّة الرمان الواحدة قد تكون المئات من هذه القوارير الصغيرة جداً، يجمع أطرافها غشاء رقيق هو غشاء حبّة الرمان الشفاف، ثمّ لكي يكون هذا التغليف أكمل وأمتن وأبعد عن الخطر ركّب عدد من الحبات على قاعدة في نظام معين، ولفت في غلاف أبيض سميك بعض الشيء، وبعد ذلك يأتي القشر الخارجي للرمانة،يلف الجميع ليحول دون نفوذ الهواء والجراثيم، ولمقاومة الضربات ولتقليل تبخر ماء الرمان في الحبات إِلى أقل حدّ ممكن.
إِنّ هذا الترتيب في التغليف لا يقتصر على الرمان، فهناك فواكه أُخرى - مثل البرتقال والليمون - لها تغليف مماثل، أمّا في الأعناب والرمان فالتغليف أدق وألطف.
ولعل الإِنسان حذا حذو هذا التغليف عندما أراد نقل السوائل من مكان إِلى مكان، فهو يصف القناني الصغيرة في علبة ويضع بينها مادة لينة، ثمّ يضع العلب الصغيرة في علب أكبر ويحمل مجموعها إِلى حيث يريد.
وأعجب من ذلك استقرار حبات الرمان على قواعدها الداخلية وأخذ كل منها حصتها من الماء والغذاء وهذا كله ممّا نراه بالعين، ولو وضعنا ذرات هذه الثمرة تحت المجهر لرأينا عالماً صاخباً وتراكيب عجيبة مدهشة محسوبة بأدق حساب.
فكيف يمكن لعين باحثة عن الحقيقة أن تنظر إِلى هذه الثمرة ثمّ تقول: إِنّ صانعها لا يملك علماً ولا معرفة!!
إِنّ القرآن إذ يقول (انظروا) إِنّما يريد هذه النظرة الدقيقة إِلى هذا القسم من الثمرة للوصول إِلى هذه الحقائق.
هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإِن المراحل المتعددة التي تمر بها الثمرة منذ تولّدها حتى نضجها تثير الإِنتباه، لأنّ "المختبرات" الداخلية في الثمرة لا تنفك عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إِلى أن تصل إِلى المرحلة النهائية ويثبت تركيبها الكيمياوي النهائي، أنّ كل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة الخالق وقدرته.
ولكن لابدّ من القول - بحسب تعبير القرآن - إِنّ المؤمنين الذين يمعنون النظر في هذه الأُمور هم الذين يرون هذه الحقائق، وإِلاّ فعين العناد والمكابرة والإِهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقه.
1- تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 750.
2- مفردات الراغب، ص 385.
3- كلمة "أخضر" تشمل كل أخضر في النبات، حتى براعم الأشجار، ولكن بما إنّها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.
4- "المتراكب" من الركوب وما ركب بعضه بعضاً، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.
5- يقول الراغب في مفرداته: إنّ "مشتبهاً" و"متشابهاً" بمعنى يكاد يكون واحداً.