الآيتان 94 - 95
﴿94 إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُوْفَكُونَ95 فَالِقُ الاِْصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾
التّفسير
فالق الاصباح:
مرّة أُخرى يوجه القرآن الخطاب إِلى المشركين، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذابة وفي نماذج حية من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.
في الآية الإُولى يشير إِلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض، وفي الآية الثّانية يشير إِلى ثلاثة من الظّواهر السماوية.
يقول القرآن الكريم أوّلا: (إِنّ الله فالق الحب والنوى).
"الفلق" شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض (1).
و"الحب" و"الحبة" تقال لانواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات التي تحصد، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضاً (2).
و"النوى" من النّواة، قيل إِنّه يخص نوى التمر، ولعل هذا يرجع إِلى كثرة التمر في بيئة العرب حتى كان العربي ينصرف ذهنه إِلى نوى التمر إِذا سمع هذه الكلمة.
ولننظر الآن إِلى ما يمكن في هذا التعبير:
ينبغي أن نعلم أنّ أهم لحظة في حياة الحبّة والنّوى هي لحظة الفلق، وهي أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر، إِذ في هذه اللحظة يحصل أهم تحول في حياته.
وممّا يلفت الإِنتباه أنّ الحبّة والنّواة غالباً ما تكونان صلبتين، فنظرة إِلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما، وإِلى بعض الحبوب الصلبة، تكشف لنا أنّ تلك النطقة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب، وانّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الإِختراق خاصية التسليم والليونة أمام إختراق نطفة النبات، كما منحت النطفة قوة إِندفاع تمكنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة، هذه حقّاً حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إِليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد.
ثمّ يقول: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي).
يتكرر هذا التعبير كثيراً في القرآن مشيراً إِلى نظام الموت والحياة وتبديل هذا بذاك، فمرّة ترى الحياة تنبعث من مواد جامدة لا روح فيها في أعماق المحيطات ومجاهل الغابات والصحارى، فيخلق من تركيب مواد كل واحدة منها سم قاتل مواد حيوية، وأحياناً ترى العكس، فبإِجراء تغيير بسيط على كائنات حية قوية مفعمة بالحياة تراها قد تحولت إِلى كائن لا حياة فيه.
إِنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحية من أعقد المسائل التي لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إِلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إِلى أعماق مجهولاتها، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحول إِلى كائنات حية.
قد يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الإِنسان أن يصنع كائناً حياً باستخدام التركيبات الطبيعية المختلفة وتحت ظروف معقدة خاصّة، وبطريقة تركيب أجزاء مصنعة، كما يفعلون بالمكائن والأجهزة، غير أن قدرة البشر "المحتملة" في المستقبل لا تستطيع أن تقلل من أهمية مسألة الحياة وتعقيداتها التي تبدأ من المبدع القادر.
لذلك نجد القرآن - وفي معرض إِثبات وجود الله - كثيراً ما يكرر هذا الموضوع، كما يستدل أنبياء عظام كإِبراهيم وموسى - على وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإِقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.
يقول إِبراهيم لنمرود: (ربّي الذي يحيي ويميت) (3)، ويقول موسى لفرعون:
(وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى) (4).
ينبغي ألاّ ننسى أنّ ظهور الحي من الميت لا يختص في بداية ظهور الحياة على الأرض فقط، بل يحدث هذا في كل وقت بإِنجذاب الماء والمواد الأُخرى إِلى خلايا الكائنات الحية، فتكتسي كائنات غير حية بلباس الحياة، وعليه فإنّ القانون الطبيعي السائد اليوم والقائل بأنّه لا يمكن في الظروف الحالية التي تسود الأرض لأي كائن غير حي أن يتحول إِلى كائن حي، وحيثما وجد كائن حي فثمّة بذرة حية وجد منها هو قانون لا يتعارض مع ما قلناه، (فتأمل بدقّة) !
ويستفاد من روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية والآيات المشابهة لها، أنّ ذلك يشمل الحياة والموت الماديين كما يشمل الحياة والموت
المعنويين أيضاً (5) فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإِرادتهم وإِختيارهم.
وهذا بذاته دليل آخر على عظمة الخلاق الذي أعطى الإِنسان هذه القدرة والإِرادة.
النقطة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هي أنّ "يخرج" الفعل المضارع و"مخرج" اسم الفاعل، يدلان على الاستمرار، أي أنّ نظام ظهور الحي من الميت وظهور الميت من الحي نظام دائم وعام في عالم الخلق.
وفي ختام الآية توكيد للموضوع: (ذلكم الله فأنى تؤفكون) أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إِلى الباطل؟ (ذلكم الله فأنى تؤفكون) و في الآية الثّانية يشير القرآن إِلى ثلاث نعم سماوية: فيقول أولا: (فالق الإِصباح) وذكرنا، أنّ "الفلق" هو شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض، و"الإِصباح" و"الصبح" بمعنى واحد.
إِنّه تعبير رائع، فظلام الليل قد شبه بالستارة السميكة التي يشقها نور الصباح شقاً، وهذه الحالة تنطبق على الصبح الصادق والصبح الكاذب كليهما، لأنّ الصبح الكاذب هو الضوء الخفيف الذي يظهر في آخر الليل عند المشرق على هيئة عمود، وكأنّه شق يبدأ من الشرق نحو الغرب في قبة السماء المظلمة، والصبح الصادق هو الذي يلي ذلك على هيئة شريط أبيض لامع جميل يظهر عند إِمتداد الأُفق الشرقي، وكأنّه يشق عباب الليل الأسود من الأسفل ممتداً من الجنوب إِلى الشمال، متقدماً في كل الأطراف حتى يغطي السماء كلها شيئاً فشيئاً.
كثيراً ما يشير القرآن إِلى نعمتي النّور والظلام والليل والنهار، ولكنّه هنا يتناول "طلوع الصبح" كنعمة من نعم الله الكبرى، فنحن نعرف أنّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جو الأرض، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض، فلو كانت الأرض - مثل القمر - عديمة الجو، لما كان هناك "طلوعان" ولا "فلق" ولا "إِصباح"، ولا "غسق" ولا "شفق" بل كانت الشمس تبزغ فجأة، بدون أية مقدمات ولسطع نورها في العيون التي اعتادت على ظلام الليل ولم تكد تفارقه، وعند الغروب تختفي فجأة، وتعم الظلمة الموحشة في لحظة واحدة كل الأرجاء، غير أنّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدي إِلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيىء الإِنسان تدريجياً لتقبل هذين الإِختلافين المتضادين والإِنتقال منالظلمة إِلى النّور، ومن النّور إِلى الظلمة، شيئاً فشيئاً، بحيث إِنّه يستطيع أن يتحمل كل منهما، فنحن نشعر بالإِنزعاج إِذا كنّا في غرفة مضاءة وانطفأت الأنوار فجأة وعم الظلام، ثمّ إِذا استمر الظلام ساعة، وعاد النّور مرّة أُخرى فجأة، عادت معها حالة الإِنزعاج بسبب سطوع الضوء المفاجىء الذي يؤلم العين ويجعلها غير قادرة على رؤية الأشياء، وإِذا ما تكرر هذا الأمر فإِنّه لا شك سيؤذي العين، غير أنّ (فالق الإِصباح) قد جنب الإِنسان هذا الأذى بطريقة رائعة (6).
ولكيلا يظن أحد أنّ فلق الصبح دليل على أنّ ظلال الليل أمر غير مطلوب وأنّه عقاب أو سلب نعمة، يبادر القرآن إِلى القول: (وجعل الليل سكناً).
من الأُمور المسلم بها أنّ الإِنسان يميل خلال إِنتشار النّور والضياء إِلى العمل وبذل الجهد، ويتجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيأ العضلات للفعالية والنشاط، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحاً، بل يكون أعمق وأكثر راحة كلما كان الظلام أشد، حيث يتجه الدم فيه نحو الداخل، وتدخل الخلايا عموماً في نوع من السكون والراحة، لذلك نجد في الطبيعة أنّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط، بل إِنّ النباتات تنام في الليل أيضاً، وعند بزوغ خيوط الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها، بعكس الإِنسان في هذا العصر الآلي، فهو يبقى مستيقظاً إِلى ما بعد منتصف الليل، ثمّ يظل نائماً حتى بعد ساعات من طلوع الشمس، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.
في الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) نجد التأكيد على ما ينسجم مع هذا التنظيم، من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن الإِمام علي (ع) أنّه قال يوصي أحد قواده "... ولا تسر أوّل الليل فإِنّ الله جعله سكناً وقدره مقاماً لا ضعنا، فارح فيه بدنك وروح ظهرك" (7).
وفي حديث عن الإِمام الباقر (ع) أنّه قال: "تزوج بالليل فإِنّه جعل الليل سكناً" (8).
وفي كتاب الكافي عن الإِمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) أنّه كان يأمر بعدم ذبح الذبائح في الليل وقبل طلوع الفجر، وكان يقول: "إِنّ الله جعل الليل سكناً لكل شيء" (9).
ثمّ يشير الله تعالى إِلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر وسيلة للحساب: (والشمس والقمر حسباناً).
"الحسبان" بمعنى الحساب، ولعل القصد منه أنّ الدوران المنظم لهاتين الكرتين السماويتين وسيرهما الدائب (المقصود طبعاً حركتها في أنظارنا وهي الناشئة عن حركة الأرض) عون لنا على وضع مناهجنا الحياتية المختلفة وفق مواعيد محسوبة، كما ذكرنا في التّفسير.
يرى بعض المفسّرين أنّ الآية تريد أن تقول إِن هاتين الكرتين السماويتين تتحركان في السماء وفق حساب وبرنامج ونظام.
وعليه فهي في الحالة الأُولى إِشارة إِلى إِحدى نعم الله على الإِنسان، وفي الحالة الثانية إِشارة إِلى واحد من أدلة التوحيد وإِثبات وجود الخالق، ولعلها إِشارة إِلى كلتيهما.
على كل حال، إنّه لموضوع مهم جدّاً أن تكون الأرض منذ ملايين السنين تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض، وبذلك تنتقل الشمس في أنظارنا من برج إِلى برج بين الأبراج الفلكية الاثنتي عشرة، والقمر يدور في حركته المنتظمة من الهلال حتى المحاق، أنّ حساب هذا الدوران من الدقة والضبط بحيث إِنّه لا يتقدم ولا يتأخر لحظة واحدة، ولو لاحظنا أنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار بيضوي معدل شعاعه 150 مليون كيلومتر ضمن جاذبية الشمس العظيمة، والقمر الذي يدوركل شهر حول الأرض في مدار شبه دائرة شعاعه نحو 374 ألف كيلومتر ولا يخرج من جاذبية الأرض العظيمة، فهو دائم الإِنجذاب نحوها، عندئذ يمكن أن ندرك مدى التعادل الدقيق بين قوة الجذب بين هذه الأجرام السماوية من جهة، والقوة الطاردة عن مراكزها (القوة المركزية) من جهة أُخرى، بحيث لا يمكن أنّ تتوقف لحظة واحدة أو تختلف قيد شعرة.
وهذا ما لا يمكن أن يكون إِلاّ في ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه وينفذانه بدقّة، لذلك تنتهي الآية بقولها: (ذلك تقدير العزيز العليم).
1- الراغب الأصفهاني (المفردات)، ص 385.
2- المصدر نفسه، ص 105.
3- البقرة، 258.
4- طه، 53.
5- أُصول الكافى، ج 2، باب (طينة المؤمن الكفار)، تفسير البرهان، ج 1، ص 543.
6- يقول علماء الفلك: يبدأ طلوع الصبح عندما تصل الشمس إِلى 18 درجة قبل الأُفق الشرقي، ويعم الظلام كل شيء ويختفي الشفق عندما تصل إِلى 18 درجة تحت الأُفق الغربي.
7- تفسير الصافي في تفسير الآية.
8- المصدر السابق.
9- المصدر السّابق.