الآيات 87 - 89

﴿87 ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ88 أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَـفِرِينَ89 أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَـلَمِينَ﴾

التّفسير

ثلاثة إِمتيازات مهمّة:

بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة، تتناول هذه الآيات الخطوط العامّة لحياتهم، وتبدأ القول: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده).

أي أنّ هؤلاء على الرغم من صلاحهم وإِسترشادهم بقوة العقل والفكر في سيرهم الحثيث على طريق الهداية، شملتهم عناية الهداية الإِلهية، وأخذت بأيديهم وإلاّ فاحتمال انحرافهم وانحراف كل انسان موجود دائماً.

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق، أو يظن أنّ الله ينظر إِلى هؤلاء نظرة خاصّة وإِستثنائية دونما سبب، يقول القرآن عنهم: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون).

فهم إِذن مشمولون بهذا القانون الإِلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التّالية تشير إِلى ثلاثة إِمتيازات مهمّة هي أساس جميع إِمتيازات الأنبياء، وهي قوله: (أُولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوة).

ولا يعني هذا أنّهم جميعاً كانوا من أصحاب الكتب السماوية، ولكن الكلام يدور على المجموع، فنسب الكتاب إِلى المجموع أيضاً، وهذا كقولنا: الكتاب الفلاني ذكر العلماء وكتبهم، أي كتب من له تأليف منهم.

أمّا المقصود من "الحكم" فثمّة إِحتمالات ثلاثة:

1 - الحكم بمعنى "العقل والإِدراك"، أي: إنّنا فضلا عن إِنزال كتاب سماوي عليهم فقد وهبناهم القدرة على التعقل والفهم، إِذ أن وجود الكتاب بغير وجود القدرة على فهمه فهماً كاملا عميقاً لا جدوى فيه.

2 - بمعنى "القضاء" أي أنّهم بإِستنباط القوانين الإِلهية من تلك الكتب السماوية كانوا قادرين على أن يقضوا بين الناس بإِمتلاكهم لجميع شروط القاضي العادل.

3 - بمعنى "الحكومة" والإِمساك بزمان الإِدارة، بالإِضافة إِلى مقام النّبوة، إِنّ الدليل على المعاني المذكورة - بالإضافة إِلى المعنى اللغوي الذي ينطبق عليها - هو أنّ كلمة "الحكم" قد وردت بهذه المعاني نفسها أيضاً في آيات أُخرى من القرآن (1).

وليس ثمّة ما يمنع من أنّ يشمل استعمال الكلمة في هذه الآية المعاني الثلاثة مجتمعة، فالحكم أصلا - كما يقول "الراغب" في "مفرداته" هو المنع، ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

قلنا من قبل إِنّ جميع الأنبياء لم يكونوا يحظون بهذه الإِمتيازات كلها، وإِسناد حكم إِلى الجمع لا يعني شموله جميع أفراد ذلك الجمع، بل قد يكون لبعض أفراده، ومن ذلك مسألة إِيتاء الكتاب لهؤلاء الأنبياء.

ثمّ يقول: لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكّة) تلك الحقائق، فإِن دعوتك لن تبقى بغير إِستجابة، إِذ إِنّنا قد أمرنا جمعاً آخر لا بقبولها فحسب، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبداً، بل يتبعون الحقّ: (فإِن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا قوماً ليسوا بها كافرين).

جاء في تفسير "المنار" وتفسير "روح المعاني" عن بعض المفسّرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس، وقد أسرعوا في قبول الإِسلام وجاهدوا في سبيل نشره، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإِسلامية وألفوا الكثير من الكتب (2).

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول لاسلام (ص) فتقول له: (أُولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (3).

تؤكّد هذه الآية مرّة أُخرى على أن أُصول الدعوة التي قام بها الأنبياء واحدة، بالرغم من وجود بعض الإِختلافات الخاصّة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق.

بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إِلى المرحلة النهاية، أي الإِسلام.

ولكن ما المقصود من أمر النّبي (ص) أن يهتدي أُولئك الأنبياء؟

يقول بعض المفسّرين: إِنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل، ويقول بعض آخر إِنّه "التوحيد وإِبلاغ الرسالة" ولكن يبدو أنّ للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الأُصول العقائدية، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأُصول الأخلاقية والتربوية.

يتّضح ممّا سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإِسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة، إِذ أنّ النسخ إِنّما يشمل جانباً من أحكام تلك الشرائع لا الأُصول العامّة للدعوة.

ثمّ يؤمر النّبي (ص) أن يقول للنّاس إِنّه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجراً لقاء عملية تبليغ الرسالة: (قل لا أسألكم عليه أجراً).

ليس الإِقتداء بالأِنبياء وبسنتهم الخالدة هو وحده الذي يوجب عليّ عدم طلب الأجر، بل أنّ هذا الدين الطاهر الذي جئتكم به وديعة إِلهية أضعها بين أيديكم، وطلب الأجر على ذلك لا معنى له.

ثمّ إِنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إنْ هي إِلاّ إِيقاظ وتوعية للناس جميعاً: (إن هو إِلاّ ذكرى للعالمين).

إِنّ النعم العامّة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي أُمور عامّة وعالمية، لا تباع ولا تشترى، ولا أجر يعطى لقاءها، هذه الهداية أو الرسالة ليست خاصّة ومقصورة على بعض دون بعض حتى يمكن طلب الأجر عليها، (ممّا قيل في تفسير هذه العبارة يتضح الترابط بينها وبين عبارات الآية الأُخرى، وبين ما سبقها من آيات).

كما يتّضح من هذه الآية الأخيرة أنّ الدين الإِسلامي ليس قومياً ولا إِقليمياً، وإِنّما هو دين عالمي عام.


1- جاءت في الآية (12) من سورة لقمان بمعنى العلم والفهم، وفي الآية (22) من سورة ص بمعنى القضاء، وفي الآية (26) من سورة الكهف بمعنى الحكومة.

2- يحتمل أيضاً أن يكون المراد من "هؤلاء" هم الأنبياء أنفسهم، أي إِذا افترضنا المستحيل، وقلنا أنّ هؤلاء الأنبياء العظام تخلوا عن أداء الرسالة الإِلهية، فإنّ الرسالة كانت تواصل سيرها على أيدي قوم آخرين، هنالك تعبيرات مماثلة في القرآن، كما جاء في الآية (65) من سورة الزمر (لئن أشركت ليحبطن عملك).

3- الهاء في "اقتده" ليست ضميراً، بل هي هاء السكت التي تلحق الكلمة المتحركة عند الوقف، مثل همزة الوصل التي يؤتى بها إذا كان حرف الإِبتداء في الكلمة ساكناً، وهي تسقط عند الوصل، مثل هاء السكت غير أنّ هذه الهاء بقيت في الكتابة القرآنية من باب الإِحتياط وارتوى الوقف هنا لكي تظهر هاء السكت.