الآيات 83 - 86
﴿83 وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَـرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ84 وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَآسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّـلِحِينَ85 وَإِسْمَـعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـلَمِينَ86 وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـهُمْ وَهَدَيْنَـهُمْ إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم﴾
التّفسير
في هذه الآيات إِشارة إِلى النعم التي اسبغها الله على إِبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإِلهية العظيمة.
يقول سبحانه: (ووهبنا له إِسحاق ويعقوب) ولم تذكر الآية ابن إِبراهيم الآخر إِسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود إِلى أنّ ولادة إِسحاق من (سارة) العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.
ثمّ يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرّد كونهما ولدي نبي، بل لإِشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: (كلاًّ هدينا).
ثمّ لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إِبراهيم، وأنّ التوحيد بدأ بإِبراهيم، يقول: (ونوحاً هدينا من قبل).
إِنّنا نعلم أن نوحاً هو أوّل أُولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.
فالإِشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإِشارة إِلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إِنّما هي توكيد لمكانة إِبراهيم المتميزة من حيث "الوراثة والأصل" و"الذّرية".
وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أُسرة إِبراهيم: (ومن ذريّته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون)، ثمّ يبيّن أن منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم: (وكذلك نجزي المحسنين).
هناك كلام كثير بين المفسّرين بشأن الضمير في (ومن ذرّيته) هل يعود إِلى إِبراهيم، أم إِلى نوح؟ غير أنّ أغلبهم يرجعه إِلى إِبراهيم، والظاهر أنّه لا مجال للشك في عودة الضمير إِلى إِبراهيم، لأنّ الكلام يدور على ما وهبه الله لإِبراهيم، لا لنوح (عليهما السلام)، كما أنّ الرّوايات التي سوف نذكرها تؤيد هذا الرأي.
النقطة الوحيدة التي حدت ببعض المفسّرين إِلى إِرجاع الضمير إِلى نوح هي ورود ذكر "يونس" و"لوط" في الآيات التّالية، إِذ المشهور في التّأريخ أنّ "يونس" لم يكن من أبناء إِبراهيم، كما أنّ "لوطاً" كان ابن أخي إِبراهيم أو ابن أُخته.
غير أنّ المؤرخين ليسوا مجمعين على نسب "يونس"، فبعضهم يراه من أُسرة إِبراهيم (1) وآخرون يرونه من أنبياء بني إِسرائيل (2).
ثمّ إِنّ الجاري عند المؤرخين أن يحفظوا النسب من جهة الأب، ولكن ما الذي يمنع من أن ينتسب "يونس" من جهة أُمّه إِلى إِبراهيم، كما هي الحال بالنسبة إِلى عيسى الذين نقرأ اسمه في الآيات؟
أمّا "لوط" فهو، وإِن لم يكن من أبناء إِبراهيم، فقد كان من أُسرته، فالعرب تطلق لفظة "لأب" على "العم"، وكذلك تعتبر ابن الأخ أو ابن الأُخت من "ذرية" المرء.
وعلى هذا ليس لنا أن نتغاضى من ظاهر هذه الآيات فنعيد الضمير إِلى نوح، وهو ليس موضوع القول هنا.
في الآية الثانية يرد ذكر زكريا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعاً كانوا من الصالحين، أي أنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإِجبارية، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله: (وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين).
الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإِلهيين، وهم إِسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربّهم درجات على أهل زمانهم: (وإِسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضلنا على العالمين).
لم يتفق المفسّرون بشأن اسم "اليسع" فقد قال بعض: إِنّه اسم عبري أصله "يوشع" ثمّ أُضيفت إِليه الألف وللام وأبدلت الشين سيناً، وبعض يرى أنّه اسم عربي من الفعل المضارع "يسع" وعلى كل حال هو اسم أحد الأنبياء من نسل إِبراهيم.
وفي الآية الأخيرة إِشارة عامّة إِلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإِخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعاً من الصالحين الذين هداهم الله: (ومن أبائهم وذرياتهم وإِخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلى صراط مستقيم).
ملاحظات
هنا لابدّ من الإِشارة إِلى بعض النقاط:
1 - أبناء النّبي:
في هذه الآيات اعتبر عيسى من أبناء إِبراهيم (وباحتمال من أبناء نوح) مع انّنا نعلم أنّ اتصاله بهما إِنّما هو من جهة الأُم، وهذا دليل على أنّ سلسلة النسب تتقدم من جهة الأب والأُم تقدماً متساوياً، ولذلك فإِنّ الأحفاد من الابن أو البنت هم ذرية المرء وأولاده.
وعلى هذا فإِنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو جميعاً من أحفاد رسول الله (ص) من ابنته يعتبرون أبناء رسول الله (ص).
إِنّ جاهلية ما قبل الإِسلام لم تكن تعترف للمرأة بأية مكانة أو قيمة، وكان النسب عندهم ما اتصل من جهة الأب فقط، غير أنّ الإِسلام أبطل هذه العادة الجاهلية، ومن المؤسف أنّ بعض أصحاب الأقلام الذين في نفوسهم شيء تجاه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، سعوا إِلى إِنكار هذا الموضوع، وحاولوا العودة إِلى الجاهلية بالإِمتناع عن نسبة أبناء فاطمة إِلى رسول الله (ص) ورفضوا اطلاق عبارة "ابن رسول الله" عليهم إِحياء للتقاليد الجاهلية.
هذا الموضوع نفسه كان قد عرض للمناقشة على عهود الأئمّة، فكانوا يجيبونهم بهذه الآية باعتبارها الدليل الدامغ والردّ الحاسم على ما يفترون.
من ذلك ما جاء في "الكافي" وفي تفسير العياشي عن الإِمام الصادق (ع) أنّه قال: "والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إِلى إِبراهيم (ع) من قبل النساء ثمّ تلا: (ومن ذريّته داود وسليمان...) إِلى آخر الآيتين، وذكر عيسى.
وفي تفسير العياشي عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إِلى يحيى بن معمر قال: بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرية النّبي تجدونه في كتاب الله، وقد قرأت كتاب الله من أوّله إِلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: (ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ (يحيى وعيسى) أليس عيسى من ذرية إِبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت.
وفي (عيون أخبار الرضا) في باب جمل من أخبار موسى بن جعفر (ع) مع هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي حديث طويل بينه وبين هارون وفيه... ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذريّة النّبي، والنّبي (ص) لم يعقب، وإِنّما العقب للذكر، لا للأُنثى وأنتم ولد لابنته، ولا يكون لها عقب، فقلت: "أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إِلاّ ما اعفيتني من هذه المسألة" فقال: لا، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإِمام زمانهم، كذا أنهى إِلي، وليست أُعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو، إِلاّ تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم، فقلت: "تأذن لي في الجواب؟" قال: هات، فقلت: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن ذريّته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى) " من أبو عيسى يا أميرالمؤمنين؟ قال: ليس لعيسى أب، فقلت: "إنّما الحق بذراري الأنبياء من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري النّبي من قبل أُمنا فاطمة (عليها السلام) " (3).
يلفت النظر أنّ بعض المتعصبين من أهل السنة تطرقوا إِلى هذا الموضوع عند تفسيرهم لهذه الآية، منهم الفخر الرازي في تفسيره حيث استدل بها أن الحسن والحسين من ذرية النّبي، لأنّ الله ذكر عيسى من ذرية إِبراهيم مع أنّه يرتبط به عن طريق الأُم فقط (4).
وصاحب المنار الذي لا يقل تعصباً عن الفخر الرازي يقول: بعد أن ينقل كلام الرازي، أنّ في هذا الباب حديثاً كره البخاري في صحيحه عن أبي بكر عن رسول الله (ص) قال مشيراً إِلى الحسن بن علي (ع) : "اّن ابني هذا سيد" بينما كانت لفظة (ابن) عند عرب الجاهلية لا تطلق على ابن البنت... ثمّ يضيف، لهذا السبب، اعتبر الناس أولاد فاطمة أولاد رسول الله وعترته وأهل بيته.
لا شك أنّ أبناء البنت وأبناء الابن هم أبناء المرء ولا فرق بينهما، ولا هي قضية اختص بها رسول الله (ص) وحده، وما سبب الإِعتراض على هذا إِلاّ التعصب وإِلاّ التمسك بالأفكار الجاهلية، ولهذا نجد جميع التشريعات الإِسلامية، كالزواج والإرث، لا تفرق بينهما، إِنّ الإِستثناء الوحيد في هذا الباب هو في موضوع الخمس الذي ورد في كتب الفقه، حيث جعل لمن تحصل فيه عنوان السيادة.
2 - لماذا وردت أسماء الأنبياء في ثلاث مجموعات في ثلاث آيات؟
يحتمل بعض المفسّرين أنّ المجموعة الأُولى: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون هؤلاء الستة، كانوا بالإِضافة إِلى نبوتهم يمسكون بيدهم القيادة وزمان الحكم، ولعل ورود (كذلك نجزي المحسنين) إِشارة الى الأعمال الصالحة التي قاموا بها أثناء حكمهم.
أمّا المجموعة الثّانية: زكريا ويحيى وعيسى والياس، فهم بالإضافة إِلى نبوتهم كانوا معروفين بالزهد وإِعتزال الدنيا، فجاء تعبير: (كل من الصالحين) بعد ذكر أسمائهم.
والمجموعة الثّالثة: إِسماعيل واليسع ويونس ولوط، فهم يشتركون في كونهم قاموا برحلات طويلة وهاجروا في سبيل نشر دعوة الله، وعبارة (كلا فضلنا على العالمين) (إِذ اعتبرنا الإِشارة إِلى هؤلاء الأربعة، لا لجميع من ورد ذكرهم في هذه الآيات الثلاث) تعتبر إِشارة إِلى هجرة هؤلاء في أرجاء الأرض وبين الأقوام المختلفة.
3 - أهمية الأبناء الصالحين في تعريف شخصية الإِنسان:
وهذا موضوع آخر يستنتج من هذه الآيات، فلإِضفاء الأهمية على شخصية إِبراهيم (ع) بطل تحطيم الأصنام، يشير الله إِلى شخصيات إِنسانية عظيمة كانوا من ذريّته في العصور المختلفة، ويصفهم بصفات جليلة، بحيث نجد من بين مجموع خمسة وعشرين نبيّاً ورد ذكرهم في القرآن، ستة عشر منهم من ذرية إِبراهيم، وواحداً من أجداده، وهذا في الواقع درس كبير للمسلمين كافة لكي يدركوا أنّ أبناءهم جزء من كيانهم وشخصيتهم، وأنّ لقضاياهم التربوية والإِنسان أهمية كبيرة جداً.
4 - جواب على إعتراض:
لعل الذين يقرأون: (ومن آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلى صراط مستقيم) يستنتجون أنّ آباء الإنبياء لم يكونوا جميعاً من المؤمنين وأنّ منهم من لم يكن موحداً، كما يقول بعض المفسّرين من أهل السنة عند تفسير هذه الآية، ولكنّنا يجب أن نلاحظ أنّ تعبير (اجتبيناهم وهديناهم) بالقرينة الموجودة في هذه الآيات تعني مقام النبوة وحمل الرسالة، وبهذا يتهاوى الإِعتراض، أي أنّ معنى هذه الآية سيكون هكذا: إِنّنا قد اخترنا بعضاً منهم لمقام النبوة، وهذا لا يعني أنّ الآخرين لم يكونوا موحدين وفي الآية (90) من هذه السورة وردت لفظة "الهداية" بمعنى النبوة (5).
1- تفسير الآلوسي، ج 7، ص 184.
2- دائرة المعارف فريد وجدي، ج 10، ص 1055 في مادة "يونس".
3- تفسير (نور الثقلين)، ج 1، ص 743.
4- تفسير الفخر الرازي، ج 13، ص 66.
5- "من آبائهم" جار و مجرور متعلقان أمّا بجملة "فضلنا" الواردة في الآية السابقة أو بمحذوف تفسره الجملة التّالية فيكون الأصل "إجتبينا من آبائهم" ينبغي الإلتفات إِلى أن "من" في الآية تبعيضية حسب الظاهر.