الآيات 79 - 82
﴿79 وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَـجُّونِّى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَنِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْء عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ80 وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزَّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ81 الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيَمـنَهُم بِظُلْم أَوْلَـئِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ82 وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـت مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
التّفسير
تعقيباً على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إِبراهيم (ع) التوحيدية، تشير هذه الآيات إِلى ما دار بين إِبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة (وحاجه قومه).
فردّ عليهم إِبراهيم (ع) قائلا: لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إِلى طريق التوحيد (قال أتحاجوني في الله وقد هدان).
يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إِبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إِبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إِلى عبادة الأصنام، ولكنّه بكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة.
لا تشير هذه الآيات إِلى المنطق الذي توسل به قوم إِبراهيم لحمله على ترك عقيدته، ولكن يبدو من جواب إِبراهيم أنّهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإِرعابه وإِخافته، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إِبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوّة في إيصال أي أذى إليه (ولا أخاف ما أشركتم به...) فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضرراً إِلاّ إِذا شاء الله: (إِلاّ أن يشاء ربّي شيئاً) (1).
يظهر من هذه الآية أنّ إِبراهيم (ع) سعى لإِتخاذ إِجراء وقائي تجاه حوادث محتملة، فيؤكّد أنّه إِذا أصابه في هذا الصراع شيء - فرضاً - فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام، بل يعود إِلى إِرادة الله، لأنّ الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها، لا يتأتى له أن ينفع أو يضرّ غيره.
ويضيف إِلى ذلك مبيناً أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء: (وسع ربّي كل شيء علماً).
هذه العبارة - في الواقع - دليل على العبارة السابقة التي تقول: إِنّ الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ، إِنّ الله الذي أحاط علمه بكل شيء هو وحده القادر على أن يكون منشأ النفع والضرر، فلم إِذن أخشى غضب غير الله؟!
ثمّ يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا: (أفلا تتذكرون).
في الآية التّالية ينهج إِبراهيم منطقاً استدلالياً آخر، فيقول لعبدة الأصنام: كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإِدراك والشعور والقوة والعلم، أمّا أنتم فعلى الرغم من إِيمانكم بوجود الله وإِقراركم له بالعلم والقدرة، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام، فانّكم لا تخافون غضبه: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) (2).
إِنّنا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السموات والأرض، ولكنّهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده، كونوا منصفين إِذن وقولوا: (فأي الفريقين أحق بالأمن إِن كنتم تعلمون).
يستند منطق إِبراهيم (ع) هنا إِلى منطق العقل القائم على الواقع، إِنّكم تهددونني بغضب الأصنام، مع أن تأثيرها وهمٌ من الأوهام، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعاً، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إِلينا أمراً بعبادة الأصنام.
في الآية التّالية جواب يدلي به إِبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إِلى الإِجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص)، يقول: إِنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إِيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
ثمّة رواية عن أميرالمؤمنين علي (ع) تؤيد كون هذه الآية إِستكمالا لحوار إِبراهيم مع عبدة الأصنام (3).
بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بياناً إِلهياً، وليست مقولة قالها إِبراهيم، إِلاّ أن ما ذكرناه - فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له - أكثر إِنسجاماً مع ترتيب الآيات ووضعها، أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام، وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إِبراهيم، فأمر بعيد الإِحتمال جدّاً.
ما معنى "الظلم" هنا؟
يرى معظم المفسّرين أنّ معنى "الظلم" هنا هو "الشرك".
وأنّ الآية (12) من سورة لقمان: (إِنّ الشّرك لظلم عظيم) دليل على ذلك.
وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أنّ الآية تشملهم جميعاً)، فقال رسول الله (ص) : "إِنّه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إِلى ما قال العبد الصالح: (... يا بني لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم) (4).
غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل، وهذا الإِحتمال جائز في هذه الآية أيضاً، فيحتملأن يكون "الأمن" عاماً يشمل الأمن من عقاب الله، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة، والأمن من الحروب والمفاسد، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إِلاّ عندما يسود المجتمع مبدآن معاً: الإِيمان والعدالة الإِجتماعية، فإِذا ما تزلزلت قاعدة الإِيمان بالله، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله، وحل الظلم محل العدالة الإِجتماعية، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان.
لذلك فعلى الرغم من المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون إِنعدام الأمن، فإِنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والإِستقرار تتسع يوماً بعد يوم إِنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة: تزلزل أركان الإِيمان، وقيام الظلم مقام العدالة.
إِنّ تأثير الإِيمان في الإِطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إِنكاره، كما لا تخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب إِرتكاب المظالم.
روي عن الإِمام الصّادق (ع) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم) قال: "بما جاء به محمّد (ص) من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان" (5).
هذا التّفسير يستهدف - في الحقيقة - بيان روح الموضوع في الآية الشريفة، إِذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره، ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي (ع) بموجب (إِنّما وليكم الله ورسوله...) قبساً من ولاية الله ورسوله (ص) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك، فإِنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط، بل إِنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.
لذلك نجد في حديث آخر عن الإِمام الصّادق (ع) أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان (6).
الآية التّالية فيها إِشارة إِجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إِبراهيم: فتقول: (وتلك حجّتنا آتيناها إِبراهيم على قومه).
صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إِليها إِبراهيم بقوّة العقل والإِلهام الفطري غير أن قوة العقل والإِلهام الفطري من الله، لذلك فإِنّ الله ينسبها إِلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إِبراهيم (ع).
ومن الجدير بالملاحظة أنّ "تلك" اسم إِشارة للبعيد، غير أنّها تستعمل أحياناً للقريب للدلالة على أهمية المشار إِليه وعلو مقامه، مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه).
ثمّ تقول الآية: (نرفع درجات من نشاء) (7) ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إِعطاء الدرجات لمن يشاء، تقول: إِن الله متصف بالحكمة وبالعلم، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: (إِنّ ربّكم حكيم عليم).
1- هذا أشبه بالإِستثناء المنقطع، فقد نفى عن الأصنام كلّ قدرة على النفع والضرر، وأثبتها لله، وللمفسّرين آراء أُخرى في تفسير هذه الآية، غير أن ما قلناه أقرب.
2- "السلطان" بمعنى التفوق والإِنتصار، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والإِنتصار، فقد يوصفان بالسلطان أيضاً، كما هو الحال هنا، أي لا وجود لأي دليل على السماح بعبادتها وهذا ما لم يستطع إِنكاره عابد صنم، لأنّ أمراً كهذا ينبغي أن يصدر عن طريق العقل والمنطق، أو عن طريق الوحي والنبوة، وعبادة الأصنام مفتقرة إِلى كليهما.
3- تفسير مجمع البيان في تفسير الآية.
4- المصدر السابق.
5- تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 740.
6- تفسير البرهان، ج 1، ص 538.
7- أنظر المجلد الثّالث، تفسير الآية (145) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين "الدرجة" و"الدرك".