الآيتان 70 - 71
﴿70 قُلْ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَنَا اللهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْـطِينُ فِى الاَْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـبٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ71 وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
التّفسير
كان المشركون يصرّون على دعوة المسلمين إِلى العودة إِلى الكفر وعبادة الأصنام، فنزلت هذه الآية تأمر النّبي (ص) بالردّ عليهم ردّاً يدحض رأيهم ويفند دعوتهم في جواب بصيغة الإِستفهام الإِستنكاري: أتريدون منّا أن نشرك مع الله ما لا يملك لنا نفعاً فنعبده لذلك، ولا يملك لنا ضرراً فنخافه؟!: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا).
هذه الآية تشير إِلى أنّ أفعال الإِنسان تنشأ عادة عن دافعين، فهي إِمّا أن تهدف إِلى استجلاب منفعة (مادية كانت أم معنوية)، وأمّا إِلى دفع ضرر (مادياً كان أم معنوياً).
فكيف يقدم الإِنسان على أمر ليس فيه أي من هذين العاملين؟
ثمّ يأتي باستدلال آخر على المشركين، فيقول: إِذا عدنا إِلى عبادة الأصنام، بعد الهداية الإِلهية نكون قد رجعنا القهقري، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو قانون حياتي عام: (ونردّ على أعقابنا بعد إِذ هدانا الله) (1).
ثمّ يضرب مثلا لتوضيح الأمر، فيقول: إِنّ الرجوع عن التوحيد إِلى الشرك أشبه بالذي أغوته الشياطين (أو غيلان البوادي التي كان عرب الجاهلية يعتقدون أنّه ا تكمن في منعطفات الطرق وتغوي السابلة وتضلهم عن الطريق) فتاه عن مقصده وظل حيراناً في الباديّة: (كالذين استهوته الشياطين في الأرض حيران) بينما له رفاق يرشدونه إِلى الصراط السوي المستقيم وينادونه: هلم إِلينا، ولكنّه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء، أو إنّه غير قادر على اتخاذ القرار: (له أصحاب يدعونه إِلى الهدى ائتنا) (2).
وفي الختام يؤمر النّبي (ص) أن يقول: إِنّ الهداية من الله وليس لنا إِلاّ أن نسلم لأمر الله ربّ العالمين: (قل إِنّ هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين).
وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين، إِذ التسليم لا يكون إِلاّ لخالق الكون ومالكه وربّ عالم الوجود، لا الأصنام التي لا دور لها في إِيجاد هذا العالم وإِدارته.
سؤال:
يبرز هنا هذا السؤال: لم يكن رسول الله (ص) قبل البعثة من أتباع دين المشركين فكيف تقول الآية: (نردّ على أعقابنا) ونحن نعلم أنّه لم يسجد قط
لصنم، إِذ لم يرد هذا في جميع التواريخ التي كتبت عنه، بل أن مقام العصمة لا يمكن أن يسمح بحدوثه؟
الجواب:
في الحقيقة تعتبر هذه الآية ممّا جاء على لسان جميع المسلمين، لا على لسان النّبي (ص) وحده، ولذلك جاءت الضمائر فيها بصيغة الجمع.
الآية التّالية، تواصل شرح الدعوة الإِلهية قائلة: إِنّنا فضلا عن التوحيد، فقد أمرنا بإِقامة الصّلاة وبتقوى الله: (وان أقيموا الصّلاة واتقوه).
وفي الختام يشار إِلى المعاد وإِلى أنّ الناس إِلى الله يرجعون: (وهو الذي إِليه تحشرون).
هذه الآيات القصار تكشف عن البرنامج الذي يدعو اليه الرّسول (ص) والمتألف من أربعة مبادىء، تبدأ بالتوحيد وتنتهي بالمعاد، وبينهما مرحلتان متوسطتان هما: تقوية الإِرتباط بالله، والإِتقاء من كل ذنب.
1- "أعقاب" جمع "عقب" وهو مؤخر الرجل، ورجع على عقبه بمعنى انثنى راجعاً، وهو هنا كناية عن الإِنحراف عن الهدف، وهو ما يطلق عليه اليوم اسم "الرجعية".
2- "إستهوته" من "الهوى" وهو ميل النفس إِلى الشهوة، واستهوته بمعنى حملته على إتباع الهوى، و"الحيرة" هي التردد في الأمر، وفي الأصل: الجيئة والذهاب، فالآية تشير إِلى الذين يذهبون من الإِيمان إِلى الشرك مستلهمين تحركاتهم من الشيطان.