الآيات 58 - 61

﴿58 وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِى ظُلُمَـتِ الاَْرْضِ وَلاَرَطْب وَلاَيَابِس إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين59 وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـكُم بِالَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كِنتُمْ تَعْمَلُونَ60 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ61 ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَـهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـسِبِينَ﴾

التّفسير

أسرار الغيب:

في هذه الآيات يدور الكلام حول علم الله وقدرته وسعة حكمه وأمره، وهي تشرح ما اجملته الآيات السابقة.

تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهاهو).

"مفاتح" جمع "مفتح" (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح، أمّا إِذا كانت بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء.

وعلى الأوّل يكون المعنى: إنّ جميع مفاتيح الغيب بيد الله.

وعلى الثّاني يكون المعنى: إنّ جميع خزائن الغيب بيد الله.

ويحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة، وكما هو ثابت في علم الأُصول، فإِن استعمال لفظة واحدة لعدة معان لا مانع منه، وعلى كل حال فهاتان الكلمتان متلازمتان، لأنّه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح.

وأغلب الظن أنّ "مفاتح" بمعنى "مفاتيح" لا بمعنى "خزائن" لأنّ الهدف هو بيان علم الله، فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية، وفي موضعين آخرين في القرآن ترد كلمة "مفاتح" بمعنى المفاتيح (1).

ثمّ لتوكيد ذلك أكثر يقول: (ويعلم ما في البرّ والبحر).

"البرّ" كل مكان واسع فسيح، وتطلق على اليابسة، "والبحر" كذلك تعني المحل الواسع الذي يتجمع فيه الماء، وتطلق على البحار والمحيطات وعلى الأنهر العظيمة أحياناً.

فالقول بأنّ الله يعلم ما في البر والبحر، كناية عن إِحاطته بكل شيء، وهذه الإِحاطة بما في البرّ والبحر إِنّما تمثل في الحقيقة جانباً من علمه الأوسع.

فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحية، الكبيرة والصغيرة، في أعماق البحار.

وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار في كل غابة وجبل.

وهو عالم بمسيرة كل برعمة وتفتح أوراقها.

وهو عالم بجريان النسيم في البوادي ومنعطفات الوديان.

وهو عالم بعدد خلايا جسم الإِنسان وكريات دمه.

وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإِلكترونات في قلب الذّرة.

وهو عالم بكل الأفكار التي تمرّ بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا... نعم أنّه عالم بكل ذلك على حدّ سواء.

لذلك فإِنّه يؤكّد ذلك مرّة أُخرى فيقول: (وما تسقط من ورقة إِلاّ يعلمها).

أي أنّه يعلم عدد الأوراق ولحظة إِنفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في الهواء، حتى لحظة استقرارها على الأرض، كل هذا جلي أمام علم الله.

كذلك لا تختفي حبّة بين طيات التراب إِلاّ ويعلمها الله ويعلم كل تفاصيلها: (ولا حبّة في ظلمات الأرض).

التركيز هنا - في الحقيقة - على نقطتين حساستين لا يمكن أن يتوصل إِليهما الإِنسان حتى لو أمضى ملايين السنين من عمره يرتقي سلم الكمال في صنع أجهزته وأدواته المدهشة.

ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟ وإِلى أين تحملها وتنشرها، أو تدسها في التراب حيث تبقى سنوات مختفية، حتى يتهيأ لها الماء فتنبت وتنمو؟

من ذا الذي يعلم كم من هذه البذور في كل أنحاء الدنيا تحمل عن طريق الإِنسان أو الحشرات في كل ساعة من نقطة إِلى نقطة أُخرى؟

أي دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي تسقط كل يوم من أشجار الغابات؟ انظر إِلى غابة من الغابات في الخريف، وخاصّة بعد مطر شديد أو ريح عاصفة، وتطلع إِلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البديع، عندئذ تتكشف لك هذه الحقيقة، وهي أنّ علوماً من هذا القبيل لن تكون يوماً في متناول يد الإِنسان.

إِنّ سقوط الورقة - في الحقيقة - هو لحظة موتها، بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها، وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة، وحتى أنّ كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وإِنبعاثها وتكاملها خلال اللحظات والساعات، جلية في علم الله.

إنّ لهذا الموضوع أثراً "فلسفياً" وآخر "تربوياً":

أمّا أثره الفلسفي، فينفي رأي الذين يحصرَون علم الله بالكليات، ويعتقدون أنّه لا يعلم عن الجزئيات شيئاً، وفي الآية هنا تأكيد على أنّ الله يعلم الكليات والجزئيات كلها.

أمّا أثره التربوي فواضح، لأنّ الإِيمان بهذا العلم الواسع لله يقول للإِنسان: إِنّ جميع أسرار وجودك، وأعمالك، وأقوالك ونياتك، وأفكارك كلّها بيّنة أمام الله، فإِذا آمن الإِنسان حقّاً بهذا، فكيف يمكن له أن لا يكون رقيباً على نفسه ويسيطر على أعماله وأقواله ونياته!

وفي ختام الآية يقول تعالى: (ولا رطب ولا يابس إِلاّ في كتاب مبين).

تبيّن هذه العبارة القصيرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بكل الكائنات بدون أي إِستثناء، إِذ أن "الرطب" و"اليابس" لا يقصد بهما المعنى اللغوي، بل هما كناية عن الشمول والعمومية.

وللمفسّرين آراء متعددة في معنى: "كتاب مبين"، ولكنّ الأقوى أنّه كناية عن علم الله الواسع، أي انّ كل الموجودات مسجلة في علم الله اللامحدود، كما أنّه تفسر بكونه "اللوح المحفوظ" نفسه، إِذ لا يستبعد أن يكون اللوح المحفوظ هو صفحة علم الله.

وثمّة احتمال آخر عن معنى "كتاب مبين" وهو أنّه عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء.

جاء فيما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ "الورقة" الساقطة بمعنى الجنين الساقط، و"الحبّة" بمعنى الابن، و"ظلمات الأرض" بمعنى رحم الأُم، و"رطب"ما بقي حياً من النطفة، و"يابس" ما تلاشى من النطفة (2).

لا شك أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الجمود على المعاني اللغوية للآية، إِذ إِنّ معنى "الورقة" و"الحبّة" و"ظلمات الأض" و"الرّطب" و"اليابس" معروف، ولكنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بهذا التّفسير أرادوا أن يوسعوا من آفاق نظرة المسلمين إِلى القرآن، وأن لا ينحصروا في إِطار الألفاظ، بل يتوسعوا في نظرتهم حين توجد قرائن على هذا التوسع.

الرّواية أعلاه تشير إِلى أنّ معنى "الحبّة" لا ينحصر في بذور النباتات، بل يشمل أيضاً بذور النطف الإِنسانية.

في الآية الثانية ينتقل الكلام إِلى إِحاطة علم الله بأعمال الإِنسان وهو الهدف الأصلي وإِلى بيان قدرة الله القاهرة، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل، ويعلم ما تعملون في النهار: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار).

"توفى" تعني استرجع، فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إِلى أنّ النوم أخو الموت، كما هو معروف، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ، وانقطاع تام في إِرتباط الروح بالجسد، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الإِرتباط، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت (3).

"جرحتم" من "جرح" وهي هنا بمعنى الإِكتساب، أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهاراً، وانّ الذي يعلم بإِنفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان، يعلم بأعمالكم أيضاً.

ثمّ يقول: إِنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر،فأنتم تنامون في الليل (ثمّ يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى) (4) أي ثمّ يوقظكم في النهار.

وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم.

ويبيّن القرآن النتيجه النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي: (ثمّ إِليه مرجعكم ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون).

وفي الآية الثّالثة توضيح أكثر لإِحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإِحصاء أعمالهم: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة).

سبق أن قلنا إِنّ "القاهر" هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوّة، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا.

أمّا كلمة "الغالب" فليست فيها هذه الخصوصية، فهي عامّة واسعة المعنى.

"حفظة" جمع "حافظ" وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس، كما جاء في سورة الإِنفطار، الآيات 10 - 13: (إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون).

ويرى بعض المفسّرين أنّهم لا يحفظون أعمال الإِنسان، بل هم مأمورون بحفظ الإِنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين، ويعتبرون (حتى إِذا جاء أحدكم الموت) بعد "حفظة" قرينة تدل على ذلك، كما يمكن اعتبار الآية (11) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك (5).

ولكنّ بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبيّن أنّ القصد من الحفظ هنا هو حفظ الأعمال، أمّا بشأن الملائكة الموكّلين بحفظ الناس فسوف نشرحه بإِذن الله عند تفسير سورة الرعد.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم أن حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول الموت: (حتى إِذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).

وتبيّن الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في مهمتهم، فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح.

ويحتمل أيضاً أنّ هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور، والآية تركز على هذا القسم بالذات.

في الآية الاخيرة يشير القرآن الكريم إِلى آخر مراحل عمل الإِنسان، فيقول: (ثمّ ردّوا إِلى الله مولاهم الحق) أي عادوا إِلى الله بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم، واختتم ملفهم الحاوي على كل شيء.

وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا وإِصدار الأحكام بيد الله: (ألا له الحكم).

وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفّات المتراكمة عن أفراد البشر طوال تاريخهم الصاخب فانّ الله سريع في النظر فيها: (وهو أسرع الحاسبين).

لقد جاء في بعض الرّوايات: "إِنّه سبحانه يحاسب جميع عباده في مقدار حلب شاة" أي أنّ ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة (6).

وكما قلنا في تفسير الآية (202) من سورة البقرة، إِنّ إِجراء الحساب من السرعة بحيث إِنّه يمكن أن يتمّ في لحظة واحدة بالنسبة للجميع، بل إِن ذكر فترة حلب شاة في الرواية المذكورة يقصد منه بيان قصر الزمن اللازم لذلك، وعلى هذا نقرأ في رواية أُخرى: "إِن الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر" (7).

والدليل على ذلك هو ما ذكرناه في تفسير هذه الآية، وهو أنّ أعمال الإِنسان تؤثر في وجوده وفي وجود الكائنات المحيطة به، تماماً مثل الماكنة التي تسجل مقدار حركتها في عداد متصل بها.

وبتعبير أوضح، لو كانت هناك أجهزة دقيقة جداً لاستطاعت أن تسجّل في عين الإِنسان عدد النظرات الآثمة، وعلى الألسنة عدد الأكاذيب والإِفتراءات والتهم والطعون التي اقترفتها، أي أن كل عضو من أعضاء الجسم فيه - بالإِضافة إِلى روحه - جهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة.

وإِذا جاء في بعض الرّوايات أنّ محاسبة المسؤولين والأغنياء تطول يوم القيامة فإِن هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب، بل هو طول زمن المحاسبة عليهم، إِذ لابدّ لهم من الإِجابة على الأسئلة الكثيرة التي تلقى عليهم بشأن الأعمال التي ارتكبوها، أي أن ثقل مسؤولياتهم ولزوم إِجابتهم على الأسئلة لإِتمام الحجّة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم.

يؤلف مجموع هذه الآيات درساً تربوياً كاملا لعباد الله في إِحاطة علمه تعالى بأصغر ذرات هذا العالم وبأكبرها وقدرته وقهره لعباده ومعرفته بجميع أعمال البشر، وقيام كتبة أُمناء بحفظ أعمال الناس وقبض أرواحهم في لحظات معينة بالنسبة لكل منهم، وبعثهم يوم القيامة، ومن ثمّ محاسبتهم محاسبة دقيقة وسريعة.

كيف يمكن أن يؤمن الشخص بمجموع هذه المسائل ثمّ لا يراقب أعماله، يظلم دون وازع، ويكذب ويفتري ويعتدي على الآخرين؟

هل يجتمع كل هذا مع الإِيمان والاعتقاد على صعيد واحد؟


1- (ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوة) (القصص، 76) و(أو ما ملكتم مفاتحه) (النّور، 61).

2- تفسير البرهان، ج 1، ص 528.

3- هناك شرح أوفى لهذا في المجلد الثاني.

4- الضمير في "فيه" يعود على "النهار" و"يبعثكم" بمعنى يوقظكم وينهضكم، و"أجل مسمى" هو العمر المحدد لكل فرد.

5- تفسير الميزان، ج 7، ص 134.

6- مجمع البيان، ج 3، ص 313.

7- المصدر نفسه، ج 1، ص 298.