الآيات 55 - 57

﴿55 قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ56 قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَـصِلِينَ57 قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَاتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الاَْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّـلِمِينَ﴾

التّفسير

الإِصرار العقيم:

ما يزال الخطاب في هذه الآيات موجهاً إِلى المشركين وعبدة الأصنام المعاندين - كدأب معظم آيات هذه السورة - يبدو من سياق هذه الآيات أنّهم دعوا رسول الله (ص) إِلى إِعتناق دينهم، الأمر الذي يستدعي نزول الآية: (قل إِنّي نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) (1).

جملة "نُهيتُ" التي وردت بصيغة الماضي ومبنية للمجهول تشير إِلى أنّ النهي عن عبادة الأصنام ليس أمراً جديداً، بل كان دائماً قائماً وسيبقى كذلك.

ثمّ بجملة (قل لا أتبع أهواءكم) يجيب بوضوح على إِصرارهم العقيم، بالنظر لأنّ عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية، لأنّ العقل يدرك بسهولة أن الإِنسان أشرف من الجماد، فكيف يمكن للإِنسان أن يخضع لأي مخلوق آخر فضلا عن المخلوق الأدني؟ هذا مع أنّ هذه الأصنام هي من صنع الإِنسان نفسه فكيف يتخذ الإِنسان ما خلقه بنفسه معبوداً يعبده ويلجأ إليه في كل مشاكله؟ وبناء على ذلك، فإِنّ منشأ عبادة الأصنام ليس سوى التقليد الأعمى والإتّباع المقيت للأهواء والشهوات.

وفي ختام الآية يؤكّد القرآن مرّة أُخرى على أنّه إِذا فعل ذلك (قد ضللت إِذاً وما أنا من المهتدين).

الآية التّالية تتضمّن جواباً آخر، وهو: (قل إِنّي على بيّنة من ربّي وكذبتم به).

"البيّنة" أصلا ما يفصل بين شيئين بحيث لا يكون بينهما تمازج أو اتصال، ثمّ أطلقت على الدليل والحجة الواضحة، لأنّها تفصل بين الحق والباطل.

وفي المصطلح الفقهي تطلق "البيّنة" على الشاهدين العدلين، غير أنّ معنى الكلمة اللغوي واسع جداً، وشهادة العدل واحد من تلك المعاني، وكذلك كانت المعجزة بيّنة لأنّها تفصل بين الحق والباطل، وإِذا قيل للآيات والأحكام الإِلهية بينات فلكونها من مصاديق الكلمة الواسعة.

وعليه، فرسول الله (ص) يؤمر في هذه الآية أن يقول: إِنّ دليلي في قضية عبادة الله ومحاربة الأصنام واضح وبيّن، وان تكذيبكم وإِنكاركم لا يقللان من صدق الدليل.

ثمّ يشير إِلى حجّة واهية أُخرى من حججهم، وهي أنّهم كانوا يقولون: إِن كنت على حق فعلا فعجل بالعقاب الذي تتوعدنا به، فيقول لهم رسول الله (ص) : (ما عندي ما تستعجلون به)، لأنّ الأعمال والأوامر كلها بيد الله: (إِن الحكم إِلاّ لله).

وبعد ذلك يقول مؤكداً: إِنّ الله هو الذي: (يقص الحق وهو خير الفاصلين).

بديهي أنّ القادر على أن يفصل بين الحق والباطل على خير وجه هو الذي يكون أعلم الجميع، ومن السهل عليه التمييز بين الحق والباطل، ثمّ تكون له القدرة الكافية على استخدام علمه، وهاتان الصفتان (العلم والقدرة) هما من صفات الذات الإِلهية اللامحدودة، وعليه فإنّه عزّ وجلّ خير من يقص الحق، أي يفصل الحق من الباطل.

الآية التّالية تأمر رسول الله (ص) أن يقول لهؤلاء الجماعة الملحاحة العنيدة الجاهلة: لو أن ما تطلبونه مني على عجل كان في سعتي وقدرتي، وأجبتكم إِليه لإنتهى الأمر، ولم يعد بيني وبينكم شيء: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم).

ولكيلا يظنوا أن عقابهم قد طواه النسيان، يقول في النهاية (والله أعلم بالظالمين) وسوف يعاقبهم في الوقت المناسب.

بحوث

هنا لابدّ من ذكر بعض النقاط:

1 - يستفاد من آيات القرآن أنّ كثيراً من الأُمم الماضية طلبوا مثل هذا الطلب من أنبيائهم، وهو: إِذا كنت صادقاً فيما تقول فلماذا لا ترسل علينا العقاب الذي تتوعدنا به؟

قوم نوح (ع) طلبوا منه ذلك (قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين) (2) ونظير ذلك جاء على لسان قوم صالح (3) وكذلك فعل قوم عاد مع نبيّهم هود (4).

ويستفاد من سورة الإِسراء أنّ هذا الطلب قد تكرر لرسول الله (ص)، حتى أنّهم قالوا له: إِننا لا نؤمن لك (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً) (5).

كان الدافع إِلى هذه الطلبات غير المعقولة السخرية والإِستهزاء، أو الرغبة في رؤية المعجزة، وفي كلتا الحالتين كان الطلب أحمقاً، إِذ في الحالة الثانية يكون تحقق الطلب سبباً في إِبادتهم، ولا يكون ثمّة مجال للإِستفادة من ظهور المعجزة، وفي الحالة الأُولى كان لدى الأنبياء أدلة بينة توفر - على الأقل - احتمال التصديق عند كل ناظر بصير، فكيف يمكن مع هذا الإِحتمال أن يطلب أحد القضاء على نفسه، أو أن لا يأخذ المسألة مأخذ الجد، غير أنّ التعصب والعناد بلاء عظيم يقفان بوجه كل فكر ومنطق.

2 - إِنّ معنى (إِن الحكم إِلاّ لله) واضح، أي أنّ كل أمر في عالم الخلق والتكوين وفي عالم الأحكام والتشريع بيد الله، وبناء على ذلك إِذا كان لرسول الله (ص) أن يقوم بمهمّة فذلك أيضاً بأمر من الله.

فإِذا أحيا المسيح (ع) ميتاً - مثلا - فهو بإِذن الله، وكذلك كل منصب - بما في ذلك القيادة الإِلهية والتحكيم والقضاء - إِذا أوكل إِلى أحد، فإِنّما هو بأمر الله تعالى.

ولكنّ الذي يؤسف له أنّ هذه الآية الواضحة استغلت على مدى التّأريخ، فمرّة تمسك بها الخوارج في قضية "الحكمين" التي أرادوها هم وأمثالهم في حرب "صفين" فكانت "كلمة حق أُريد بها باطل" كما قال الإِمام علي (ع)، حتى أصبح شعارهم (لا حكم إِلاّ لله).

لقد كانوا من الجهل والبلاهة إِنّهم حسبوا أن من حكم بأمر الله والإِسلام في أمر من الأُمور يكون قد خالف (إِن الحكم إِلاّ لله) بينما كانوا يقرأون القرآن كثيراً، ولكن لا يفهمونه إِلاّ قليلا، فالقرآن نفسه في موضوع الإِحتكام العائلي يصرح بإِختيار حكم من جانب الزوجة وحكم من جانب الزوج: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) (6).

واعتبر بعض آخر هذه الآية - كما يقول الفخر الرازي في تفسيره - دليلا على الجبرية، قائلين إِنّنا إِذا قبلنا بأنّ الأوامر في عالم الخلق بيد الله، فلا يبقى لأحد مجال للإِختيار.

ولكنّنا نعلم أنّ حرية إِرادة عباد الله وحرية إِختيارهم هي أيضاً، بأمر من الله الذي شاء أن يكونوا أحراراً في إِختيار ما يعملون، لكي يحملهم مسؤولية أعمالهم والتكاليف الملقاة على عواتقهم.

3 - "يقص" في اللغة ترد بمعنى القطع، وفي القاموس: "قص الشعر والظفر أي قطع منهما بالمقص أي المقراض"، وعلى هذا يكون معنى و (يقص الحق) إِنّ الله يقطع الحق عن الباطل ويفصل بينهما، ولذلك يتلوها بقوله: (هو خير الفاصلين) للتوكيد، فالفعل "يقص" هنا لا يعني سرد حكاية، كما ظن بعض المفسّرين.


1- إستعمال "الذين" التي هي للجمع المذكر العاقل، لا للإِشارة إِلى الأصنام، يدل على أنّ الكلام يجري وفق وجهة نظر المشركين.

2- هود، 32.

3- الاعراف، 77.

4- الأعراف، 70.

5- الإِسراء، 91.

6- النساء، 35.